السبت، 20 ديسمبر 2008

الاستبداد ... ومصادر الشرعية

صالح بشير

يبدو أن هناك إقبالا، متفاوت الدرجة متباين الإحكام، لا ينتسب إلى منطقة دون سواها، على ما يمكن تسميته بالنصّية الدستورية، لم يكن في ما مضى، خصوصا في أعقاب الفترة الاستعمارية وبلوغ «بلدان الجنوب» الاستقلال ومسارعتها إلى إنشاء الدول-الأمم، بالهاجس الأول لدى تلك النخب الجديدة.
فمن روسيا التي تقيد رئيسها السابق، فلاديمير بوتين بأحكام الدستور الذي لا يخوله أكثر من ولايتين متعاقبتين، فاكتفى برئاسة الحكومة مع أنه لا يساور أحدا شك، لا في روسيا ولا في خارجها، بأنه هو المزاول الفعلي للسلطة العليا، عبر رئيس جديد، ديمتري مديفيديف، هو الذي اختاره ورشحه وبوأه، يتولى مقاليد الأمور من خلاله، إلى جزائر عبد العزيز بوتفليقة التي عدلت دستورها أخيرا، لكي تمكن رئيسها من ولاية ثالثة، إلى ظواهر متعددة، من هذا القبيل أو من ذاك، جدت في السنوات الأخيرة في حالات وفي أماكن متعددة.
لسنا نريد تناول هذا الأمر من باب الإدانة، فذلك ما قد يكون في نهاية مطافه سهلا، لا يكلف صاحبه في الغالب، لا سيما إن لاذ بتعميم يتجنب التخصيص، سوى الحبر الذي كُتب به، هذا ناهيك عن أن المعترضين في ذلك الصدد، لا ينذرن، في شأن إعادة إنتاج الاستبداد، إلا بما هو أنكى أو أنهم يعجزون عن استدراج البديل عما يفضحون، وعن أن حجة الأنظمة، أو بعضها على الأقل، ورجالاتها، في حالات وإن لم يكن في كلها، من أن الظروف قد لا تكون ناضجة للديمقراطية أو للذهاب في إرسائها أبعد (لمن يعتقد بأنه قد حقق في سبيل إرسائها نصيبا) ليست مردودة بالكامل ودون مساءلة، تشوبها الشبهة لمجرد كونها صدرت عمّن صدرت.
كل ذلك للقول إن تلك النصيّة الدستورية ربما تطلبت توقفا عندها، وإن مع الإقرار بكل حدودها، علما بأن الاقتصار عليها في هذا المجال ليس استنقاصا لسواها من العوامل واستخفافا بها. صحيح أن تلك النصيّة الدستورية تشوبها استدراكات كثيرة، أولها أن التقيد بالنصوص الدستورية كثيرا ما يتحقق، في مثل تلك الحالات، من خلال انتهاكها، بواسطة ما يُعرف بإجراء تعديلات «حسب المقاس»، وأن في ذلك ما من شأنه أن يضفي على ذلك الأمر نسبيةً لا تُجحد، ولكن يبقى أن ذلك الإصرار على نصيّة الدستور، حتى ضمن تلك الحدود والمحددات، ذو دلالة يتعين أن تُستنطقُ، أقلّه كفرضية بحث.
أما الدلالة تلك فهي قد تكون المتمثلة في أن الاستبداد أو التسلط أو الانفراد وما إليها من أشكال الحكم، كانت «تتمتع» في ما مضى بشرعية ما عادت الآن من نصيبها، كانت تستقيها من إيديولوجيا ثورية تأخذ بها، أو من سيرة القائد المؤسس والجيل الذي اجترح الاستقلال وتولى إنشاء الدولة. وكان العاملان ذانك، كلا منهما على حدة وخصوصا إن تواشَجا، كفيلين بتأسيس أهلية للاضطلاع بالسلطة، «طبيعية» أو تكاد، تنأى بصاحبها عن كل مساءلة، تصدر عن مرتبة متعالية (الإيديولوجيا أو الدور التاريخي التأسيسي) ليست، بصفتها تلك، في حاجة إلى مصادقة تأتيها من تحت، إلا على سبيل التصفيق والمباركة. وهكذا، لم يجد جيل الآباء المؤسسين، من قادة استقلال ومن أصحاب الوعود الإيديولوجية الكبرى، بالغ المشقة في إرساء سلطانهم ولا اكترثوا يوما بالدساتير ولا اهتموا بمقتضيات بنودها إلا لماما.
لم يبق لمثل ذينك العاملين من فعل، إما بسبب تغير الظروف وإما لسبب جيلي أو بيولوجي، وأضحى ورثة ذلك الجيل المؤسس في غير وارد الاكتفاء بمرتبة متعالية يصدرون عنها محض إملاء، بل باتوا ينشدون مصادقة المحكومين، يُستنهضون، أو يصار إلى استنهاضهم بواسطة أحزاب، حاكمة أو موالية للحاكم، كثيرا ما تكون، وتلك حقيقة موضوعية، الوحيدة الحائزة على صفة «الجماهيرية»، تستبق مطالب التمديد وترفعها أو تتظاهر بذلك، ثم تدرجها في الدستور بندا مُلزما، صدر عن المراتب الدنيا أو اكتسب تلك الصفة. لنترك إذن جانبا الخوض في استبدادية مثل تلك الأنظمة من عدمها، خصوصا أن الخوض ذاك غالبا ما يكون مُغرضا من الجانبين، لنتوقف عند ذلك التغير في مصادر الشرعية والذي قد يكون التحول الأهم والأبعد غورا، وإن لم يفض، أو لم يفض بعد، إلى الديمقراطية، أو حتى إلى مجرد الاقتراب منها، لأنه يلجأ في حالات كثيرة، وليس في كلها (وذلك ما يتطلب تنويها)، إلى الاصطناع أو إلى الافتعال.
وهكذا، فإن التحول ذاك، بالرغم مما قد يرى من هم في عجلة من أمرهم دون امتلاك أسباب الخلوص إلى إلديمقراطية، قد يكون من أوكد الطرق المفضية إلى هذه الأخيرة في يوم من الأيام، أقلّه لأنه أعاد السلطة، من حيث لا يدري ربما، إلى ملكوت الأرض والسياسة، فإذا هي صراع لا أكثر، قد يكون مفتوحا بالرغم مما قد يوحي ظاهر الأمور.

نشر في يومية "الجريدة" الكويتية بتاريخ 16-12-2008

لا تستقيم إطلاقية حقوق الإنسان من دون إطلاقية الإنسان نفسه

صالح بشير

قد لا تُدرك فكرة، مبدأ، دعوة إلا بواسطة تحديدها سلبا، من خلال ما تهمله، ما تستبعده، ما تستثنيه، عن وعي أو عن غير إرادة. فهي تعين مجال صلاحيتها، وليس لها إلا أن تفعل، أقله لتبيان ما يميزها، للتعريف بما يصنع فرادتها أو ما تحسبه كذلك. ما من فكرة، ما من مبدأ، ما من مبدأ، إلا وتطرح نفسها إيجابيا، في ما يبدو مسعى يتخطى تأكيد الذات إلى تحصينها، إذ يصعب، إن لم يتعذر، دحضها أو مجرد مماحكتها، في ما تأنسه في نفسها إيجابا، في ما قامت من أجل إقراره.
خذ مثلا فكرة حقوق الإنسان أو مبدئها، ذانك اللذان يُحتفى هذه الأيام بالذكرى الستين لإصدار إعلانهما العالمي عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، لنرى أن الأمر الآنف الذكر قد يصح في شأنها كما لا يصح في شأن سواها. إذ من عساه، في أيامنا، يجابه تلك الحقوق ويعاندها؟ من فعل وجد نفسه في موقع دفاعي لا يُحسد عليه أو اضطر إلى مماشاة منطق تلك الحقوق الإنسانية (أو قد يُقال «ثقافتها» على ما يقتضي اللسان الدارج في زماننا) بأن يطلق صفة الحقوق، محاولا بذلك تسويغه، على ما هو ليس في عدادها متنكرٌ لها، شأن ارتداء «البرقع» أو ما شاكله من أمارات الإجحاف أو التمييز.ذلك أن الحقوق تلك، والمبدأ القائل بها والمقرّ لها (مع أن الإقرار ذاك فيه نظر)، قد فرضت نفسها وحققت «هيْمنة»، ما جعل حتى أعتى عتاة الاستبداد يتمسحون بها، إذ أضحت عنوان الانخراط في الحداثة، أو على الأقل، في المعاصرة، مع أنها قديمة قدم العالم، على ما ذهب ويذهب بعض المفكرين والباحثين، مثل الألماني ماكس فيبر الذي أعاد بعض أبوتها إلى القديس بولس، أي إلى فترة تأسيس المسيحية، عندما لام هذا الأخير، بشيء من قسوة تأخذ في الحسبان كرامة الإنسان قبل أي اعتبار أو انتماء، نظيره القديس بطرس الذي كان على مائدته يؤاكل جمعا من «الأغيار» حتى إذا ما وفد لفيف من اليهود تحرج وانسحب من صحبة «غير المختونين» أولئك.
قد يكون الجديد الذي جاءت به العصور الحديثة أنها قامت بمأسسة تلك الحقوق، إن سلمنا بقدمها، فاتخذتها أساسا لإنشاء الدول وإحداث الأنصبة الاجتماعية وسن القوانين بل وحاولت إرساءها تشريعا دوليا، وأنها إذ فعلت ذلك، قد نجحت في فرضها «باراديغم»، يأخذ به الجميع، بما في ذلك أعداؤه الحقيقيون أو المفترضون، وإن من باب محاجّته على أرضيته أو من باب مداورته.
ومع ذلك، فإن المبدأ ذاك في أزمة. صحيح أن حال حقوق الإنسان الآن أفضل، وبما لا يقاس، مما كانت عليه في أربعينات القرن الماضي، في موفى الحرب العالمية الثانية، أقله لأنها آلت إلى قدر من كونية عمليّة ولم تعد شأنا شماليا غربيا خالصا، لا يمتد حتى إلى شرق القارة القديمة وجنوبها، ناهيك عن العالم، ولكن ما لا ريب فيه، من وجه آخر، أن الحقوق تلك لا تزال تُنتهك على نطاق واسع، حتى داخل الديموقراطيات ذاتها أو على يديها في أصقاع كثيرة.قد لا يعود ذلك فقط إلى مجرد صعوبة الإرساء وعسر الإنجاز، أو إلى مقتضيات التسييس، تفضي إلى توسل تلك المبادئ في سبيل ما لم توجد من أجله، جزءا من سياسة قوة وسعيا إلى فرض غلبة، ولكن الأزمة تلك ربما عادت إلى لبس يقوم عليه مبدأ حقوق الإنسان، في صيغته الحديثة، من أساسه. وقد لا يتيسر النفاذ إلى ذلك اللبس إلا بالعودة إلى مساءلة ذلك المبدأ في ما يحدده سلبا، كما سبقت الإشارة وإن جازت العبارة، لا في ما يقدّم به نفسه إيجابا.
من زاوية النظــر هــــذه، ربمـــا أمكن القـــول إن كل مبدأ، مهما بلغ من الشمول، إنما يميّز ويطرح ويستبعد، يعيّن من هو جدير بالانتماء إليه ومن ليس بذلك قمينا. وإذا ما كان الأمر هذا شائعا، فهو قد يكون في شأن حقوق الإنسان أبعد مدى وأنكى. إذ ما مصير أولئك الذين لا يندرجون في إطار ذلك المبدأ الأقصى، مدى وكونية واستغراقا مُفترضا للإنسان كماهية، أي من لا يندرجون في إطار ذلك التطابق، الذي يرسيه ذلك المبدأ بين الإنسانية وحقوق الإنسان؟ هل يُصار، بفعل عوامل تبعدهم عــــن تلك الحقوق، حقيقة أم توهما، فعلا أو افتراضا، لثقافات أو أيديولوجيات يدينون بها تُعتبر نقيضا أو لمجرد عدم الاكتراث بإنسانيتهم، إلى استبعادهم من الإنسانية جراء استبعادهم من تلك الحقوق؟
لا ينبو مثل ذلك السؤال عن تهويم خيال لا أكثر، إذ أن في مجريات أمور هذا العالم ما يؤيده وما أيده مرارا. ولعل في معتقل غوانتانامو ما يقدم أجلى الأمثلة على ذلك «اللبس» (حتى لا نقول أكثر) الآنف الذكر، إذ أدى ذلك العداء للديموقراطية وتاليا لحقوق الإنسان، الذي يُنسب إلى نزلاء ذلك المعتقل، إلى وضعهم خارج الإنسانية وخارج كل قانون، على ما هو جليّ معلوم لا فائدة من العودة إلى الخوض فيه.لكن ذلك المثال الصارخ، والأقصى تبعا لذلك، أبعد عن أن يكون الوحيد، بل أبعد عن أن يكون الأجلى دلالة، أقله لفرط إيغاله في اللامعقول. أما المثال الأفصح في ذلك الصدد، والموحي على نحو بنيوي، فهو دون ريب ذلك المتمثل في القضية الفلسطينية، تلك التي تفضح، بفعل رمزيتها واطّرادها في آن، ذلك التفاوت بين الإنسانية وحقوق الإنسان.
فقد جاء السماح بقيام الدولة العبرية، وذاك بالمناسبة جد في الفترة التي شهدت صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إحقاقا لحق إنساني اعتُبر أساسيا وأوليا، هو المتمثل في تمكين اليهود، بعد طول اضطهاد كانت المحرقة أوجه المأسوي، من «وطن قومي»، ولكن ما كان لافتا في ذلك السخاء غير المسبوق أن إحقاق ذلك الحق كان ذاهلا تمام الذهول عن حقوق أخرى يُفترض أنها مساوية، لإنسان آخر، يُفترض أنه هو أيضا مساوٍ، هو ذلك الفلسطيني. وفي ذلك ما قد يستوي إقرارا، ضمنيا ولكنه ناطق بطبيعة ذلك اللبس، بأنه لا سبيل إلى إقرار إنسانية تلك الحقوق إلا بإنكار إنسانية أحد الطرفين وإعلان خروجه منها.
وهكذا ولكل ذلك، قد لا يتحقق إصلاح حقوق الإنسان إلا بمطابقة، لا تزال بعيدة عصية، بين إطلاقية تلك الحقوق وإطلاقية الإنسان.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 14-12-2008

الاثنين، 8 ديسمبر 2008

باراك أوباما في الشرق الأوسط: هل يصحّح بوش؟

صالح بشير

مبررة تبدو تلك الريبة وذلك الحذر، بشأن سياسة الإدارة الأميركية المقبلة حيال قضايا الشرق والأوسط والمسألة الفلسطينية لا سيما، يكادان يعلنان خيبة الأمل قبل أوانها وحصولها، ما دام البيت الأبيض لم ينتقل بعد إلى نزلائه الجدد ولم يستلموا زمام أمره، ولم يباشروا السياسات التي أزمعوا أو قد يزمعون.
هناك استباق إذن، في العالم العربي ولدى جل نخبه، أقله تلك الحائزة على «صلاحية» القول والتعبير، سِمته (ذلك الاستباق) السلبية، مُطلقة أو غالبة، حيال ما قد يصدر أو لا يصدر عن الإدارة الأميركية المقبلة من مواقف ومبادرات حيال الشرق الأوسط، والموضوع الفلسطيني على وجه أخص، قوامه ومبعثه حتى اللحظة، إشارات بدرت عن الرئيس الأميركي المنتخب، بدت، لأبناء هذه المنطقة، غير مطمئنة، شأن تعيينه صديقا له إسرائيليا كبيرا لموظفي البيت الأبيض، أو استنكافه عن سلوك مسلك القطيعة مع كل سابق، وجنوحه إلى توخي سبيل الاستمرارية، كما تدل تركيبة فريقه الأمني الجديد-القديم.
والحق أنه إذا كان التوجس ذاك مبررا، على ما سبقت الإشارة، فإن المسؤولية عنه تقع على نحو حصري أو يكاد على متلقي الرسالة لا على صاحبها، فالرجل، أي المرشح أوباما، لم يتفوه طوال حملته الانتخابية بتعهدات في ذلك الصدد تفيد مثل تلك القطيعة، وإن تحدث كثيرا عن «التغيير» وجعله شعاره الفارق، وهو لذلك في حل من مراعاة من أسقطوا عليه رغباتهم، فكان أن انتقلوا بذلك من إفراط إلى إفراط، من إفراط في التفاؤل لأن الرئيس الأميركي الجديد من أصول إفريقية عرقا وإسلامية عقيدة، اسمه الثاني «حسين»، ولا يمكنه أن يكون، لمواصفاته تلك، إلا مناصرا للحقوق العربية، إلى إفراط في الخيبة، بات يلوح في حكم المؤكد، قد يدفع أهل التطرف والغلو إلى المطالبة بتطبيق حد الردّة عليه، وهي خيبة قد عبر عنها أيمن الظواهري، وهو في هذا المضمار مجرد مثال وإن كان مثالا أقصى، بأكثر الألفاظ بذاءة، إذ وصف الرئيس الأميركي الجديد بأنه «عبد البيت».
هناك تغيير تحقق، لا ريب في ذلك ولا مراء، ولكنه من غير قبيل ما يعنينا أو نهتم به عادة، هو المتمثل في إعادة تفعيل الديموقراطية، وفي توسيع مداها بما يمكن من إدراج سليل أقلية منبوذة ومضطهدة تاريخيا، في عداد النخب الحاكمة على رأس الدولة الأولى في العالم، ولكن التغيير ذاك لا يُترجم ضرورة انقلابا جذريا في السياسات، في ديموقراطيات راسخة، قوامها الاستمرارية.
بل أننا قد لا نتورع، إن أخذنا بذلك الاعتبار، عن إضفاء قدر من النسبية على هزيمة البوشية في الانتخابات الأميركية الأخيرة، تلك التي بدت نتائجها نقضا لها مبرما. أما النسبية التي نعني، فهي تلك التي تفترض وجود مستويين في البوشية قد لا يتعين الخلط بينهما: الأول هو ذلك الإيديولوجي، وهذا كانت قد لاحت عليه علامات التأزم والإخفاق منذ أمدٍ من ولاية بوش الثانية، وحتى قبل أن يأتي الانهيار المالي الأخير ليحرج الإيديولوجيا النيوليبرالية إحراجا هدد بنسفها وجعلها في موقع دفاعي، والثاني هو ذلك المتعلق بالاستراتيجيات الكبرى التي صير إلى بلورتها وإلى تحديدها في عهد بوش، خصوصا إثر عدوان الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، تصريفا للقوة الأميركية وموضعةً ولفعلها على الصعيد الكوني، وهو ما قد يكون رسم أفقا يندرج في المدى الطويل، لا يمكن لتداول انتخابي أن يلغيه ولا هو من وظائفه.
الأرجح إذن أن تظل تلك الاستراتيجيات الكبرى قائمة، وفي مسلك الإدارة المقبلة ما يوحي بذلك، من الإبقاء على روبرت غايتس وزيرا للدفاع لاستكمال ما كان قد بدأه في عهد بوش، في العراق لا سيما، إعدادا لإنهاء الوجود الأميركي في ذلك، وفق الصيغة التي قام عليها منذ سنة 2003، باتجاه مأسسة ذلك الوجود، إلى «الحملة على الإرهاب» التي يبدو أنها ستظل بندا أساسيا من بنود السياسة الخارجية للإدارة الجديدة، وإن مع ترشيدها ونزع ما اتسمت به من نزق ومن تهور إيديولوجيين في عهد الإدارة الآيلة إلى انصراف، إلى مبدأ «بناء الأمم»، أو «بناء الدول»، الذي كان من المبادئ الأثيرة لدى الإدارة الآفلة ويبدو أن تلك التي ستخلفها عاملة على استعادته وتبنّيه، ما قد يجعل التغيير، في كل تلك المجالات، لا يعدو أن يكون إصلاحا للبوشية، تقويما لشططها ولصلفها ولأدائها، ولما اعترى كل ذلك من جنوح إيديولوجي ومن ارتجال وسوء تصرف وتقدير. وهكذا، على سبيل المثال، إذا كان أوباما قد أبدى لينا في ما يتعلق بالتفاوض مع إيران ومحاورتها، فإنه عبّر عن حزم، نظير لذلك الذي عبّر عنه سلفه، في ما يتعلق بمنع الجمهورية الإسلامية من حيازة السلاح النووي.
كل ذلك للقول بأنه قد لا يتعين توقع الكثير من التغيير الذي جاءت به الانتخابات الأميركية الأخيرة على صعيد حل المشكلة الفلسطينية مثلا، إذ لم تكن موانع ذلك الحل من طبيعة إيديولوجية بحتة، حتى يُحدِث ذهاب بوش في شأنها تغييرا جوهريا، بل كانت أيضا من طبيعة سياسية واستراتيجية، موضوعية، لا تزال قائمة، تتمثل في خصوصية علاقة التحالف بين الولايات المتحدة والدولة العبرية وتعنت هذه الأخيرة، وفي العامل الإيراني وما نجم عنه من استقطاب حاد على صعيد المنطقة، في الضعف العربي وفي الاهتراء الفلسطيني الداخلي وقد تفاقم انقساما وحربا أهلية....
لا يعني كل ذلك، بطبيعة الحال، الاستسلام في إلى ضرب من جبرية، استراتيجية أو سواها، تيئيسا وإحباطا، إذ لا مناص من استمرار السعي في طلب الحل والضغط من أجل بلوغه، ولكن من خلال اجتراح شروطه السياسية، بقطع النظر عمن يكون نزيل البيت الأبيض وعمن تكون الأغلبية الحاكمة، وبصرف النظر عن تعاطفها من عدمه.ذلك أن التغيير الذي شهدته الولايات المتحدة ليس واعدا بالحل من تلقائه، ولمجرد حصوله، غير أن مزيته أنه قد يفتح في وجه المطالب الفلسطينية مجالا نضاليا جديدا، هو التمثل في نسبته إلى ذلك الجانب من القيم الإنسانية التي أفضى الإقبال عليها إلى انتخاب ملوّن على رأس القوة العظمى في العالم: حس العدالة ونبذ التمييز المشين. وتلك نقطة تتطلب تأملا وسبرا.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 7-12-2008

الأربعاء، 3 ديسمبر 2008

الـ"ميدياقراطية" وابتسار حرية التعبير

صالح بشير

نجم عن تطور تكنولوجيات الاتصال، على نحو جعلها في حِل من الشروط والحدود والمحددات الترابية للأوطان والجماعات، بانتمائها إلى حيّز مفارق، يتمثل في الفضاء الخارجي، ذلك الذي تتوسله «الفضائيات»، أو في صنو له «افتراضي»، هو مجال شبكة الإنترنت، تحوّلُ الـ«ميدياقراطية»، كما سبق توصيفها في مقالة الأسبوع الماضي، إلى ظاهرة كونية، أوجدت لأول مرة في التاريخ ربما، انفصالا بين السلطة والعملية الإعلامية، أوجد بدوره تبايناً بين مجاليْ فعل كل من المرتبتين تينك، طالما أن السلطة لاتزال مرتبطة بحيز ترابي معلوم مُعرّف، أضحت العملية الإعلامية متحررة منه على نحو ناجز أو يكاد.
ليس أدل على ذلك التفاوت المستجدّ من عسر الرقابة في زمننا هذا أن تمارسها سلطة من السلطات، فهي في ما يخص الإعلام الفضائي متعذرة ممتنعة، لا يجدي في شأنها منع ولا قمع، وهي في ما يخص شبكة الإنترنت بالغة النسبية، إذ إن وسائل مداورتها وفيرة وعلى قدر من نجاعة.
فهل أدى ذلك إلى تمكين حرية التعبير وإلى توسيع مداها لتصبح في متناول من كان من مزاولتها محروماً، على ما يقول رأي شائع، ربما مال إلى الخلط بين الكم والنوع؟ الأرجح أن لا أو، على الأقل، ليس بالقدر الذي يُصوّر عادةً، وذلك لأسباب متعددة: أولها ذلك الذي صير إلى تناوله، على أعمدة هذه الصحيفة، في مناسبة سابقة، من أن الإعلام المعاصر، ووسائله التقنية المستجدّة، قد نجحت بالفعل في إرساء ضرب من حرية، ولكنها تتوقف عند «حرية التلقي» ولا ترقى إلى مصاف «حرية التعبير»، ومن أن تلك لا تعني، بداهةً، هذه. بمعنى آخر، إذا كانت «حرية التلقي» أضحت مضمونة أو في حكم المضمونة، في متناول كل مُشاهد، وأحيانا كل قارئ، مستفيدٍ من تراجع الرقابة أو من تلاشي دورها، فذلك ليس حال «حرية التعبير» التي لاتزال خاضعة لسطوة المال ولسطوة السلطة السياسية، واقعة تحت نفوذهما، معا أو إحداهما دون الأخرى.
ولعل أهم ما يُستخلص من ذلك، إن سلمنا به، أنه لا سبيل، في ذلك المضمار، إلى التعويض بالوسائل التقنية، مهما بلغت تطورا وأداءً، عما أخفقت وقصرت في تحقيقه السياسة، أي أن «حرية التعبير» تظل متعلقة بالحريات الأساسية، وباجتراح المواطن القادر على التعبير في كنف نصاب ديمقراطي، وأننا لن ننال، في غياب ذلك، من «حرية التعبير» إلا ما كان من قبيل الضوضاء وحفلات الردح والتشاتم التي تملأ شاشات فضائياتنا. هل من باب المصادفة مثلا إن الكشف عن أي من الوقائع الفارقة والمشينة التي حفت بغزو العراق واحتلاله، من فضيحة معتقل أبو غريب إلى جريمة استخدام اليورانيوم المنضّب ضد المدنيين إلى سواهما، لم يتحقق بفعل وسائل إعلامنا وفضائياتنا العتيدة، بل حصرا بفعل وسائل إعلام غربية تفهم مزاولة حريتها على أنها السعي وراء المعلومة وإيصالها إلى الناس؟
ثم إن الـ«ميدياقراطية» إذ سادت كونيّا على نحو ما أشرنا، أوجدت وهما بالمساواة أمام الخبر والمعلومة والرأي بين سكان المعمورة، أي بين كل المتمتعين بـ»حرية التلقي» في كل مكان، مادام يُفترض فيهم أنهم يتلقون نفس الخبر، آبقا عن كل رقابة، في نفس اللحظة، وبنفس الطريقة وبذات الصور في أحيانا كثيرة، لا فارق في ذلك بين من يعيشون في كنف ديمقراطية مستتبة، وبين من يكابدون استبدادا مطبقا، وإن تفاوت درجاتٍ واستفحالا.
أما عن وجه الوهم في إرساء تلك المساواة فقوامه أن «الميدياقراطية» ووسائلها، إذ امتلكت إمكانات وتقنيات مخاطبة الجميع دون تخصيص، وبصرف النظر عن كل تحديد ترابي، لم تتوصل إلى ذلك بواسطة مخاطبة الفرد مواطنا في كل مكان، باسم «مبادئ كونية» تأخذ بها، بل بواسطة تسليع الإعلام، بمعناه الأوسع، وتوخي تقنيات السوق في ترويجه، شكلا ومحتوى. وبذلك، فإن الميدياقراطية، لا تتوجه إلى متلقّ، تفترض فيه صفة المواطنة، في كل مكان، بل إنها تخاطب مستهلكا، نجح اقتصاد السوق المعولم، في تنميطه، والفارق جلي بين المقاربتين، حيث إن السوق، ومتطلباته، حيادي حيال المبادئ الكبرى، من مواطنة أو سواها، أقله ما ظلت النيوليبرالية مستحكمة، كما كانت الحال طوال العقدين الأخيرين اللذين شهد آخرهما، لا سيما ذلك البوشي، خلطا فظيعا بين حرية السوق وحرية الإنسان، كانت له من العواقب الوخيمة الكثير.
لذلك، يمكن القول إن الميدياقراطية، وقد أضحت شأنا كونيا، قد شوشت فكرة الحرية، بدءا بحرية التعبير ذاتها، فبهّتت وظيفة الإعلام وابتسرتها، من حيث زعمت تعزيز حريتها، بأن ألحقتها رديفا لحرية السوق لا أكثر من ذلك، حتى إن مولتها دول، تأخذ في ذلك بتقنيات السوق ومتطلباته، تماما كما تفعل عندما تدخل غمار سوق المال بواسطة صناديقها السيادية.
* كاتب تونسي

نشر في يومية "الجريدة" الكويتية، بتاريخ 2-12-2008

الأحد، 30 نوفمبر 2008

انتخاب اوباما بصفته إنهاء لأزمة الديموقراطية وعلاجاً من النيوليبرالية

صالح بشير

أنهى الأنموذج الديموقراطي الحرب الباردة ظافراً منتصراً، ولكنه خرج من تلك المواجهة ضد المعسكر التوتاليتاري، «إمبراطورية الشر» كما سماها رونالد ريغان وهو يخوض ضدها الجولة الأخيرة والحاسمة، منهكاً مستَنفَداً متأزماً.
من هنا قصر عمر يوتوبيا «نهاية التاريخ» (أو اختتامه وفق تعبير أفضل)، ومن هنا خيبة التفاؤل الذي كان استشرى في شأن انتشار الديموقراطية في تسعينات القرن الماضي، والذي ما لبث أن انحطّ على يدي جورج بوش، وعلى أيدي إدارته ومحافظيه الجدد، إلى محض إرادوية إيديولوجية باءت بفشلها المعلوم. ذلك أن الأنموذج الديموقراطي بلغ طور الغلبة والانفراد وهو عاجز عن أن ينهض بأية «يوتوبيا».
ربما عاد ذلك إلى طبيعة الدعوة الديموقراطية، وهي ليست بالقيامية ولا بالخلاصية، تدحض الصفتين تينك وتنكرهما على نفسها وقامت عنهما بديلاً أو حاولت ذلك، منذ أن استبدّت بأوروبا حمّى الثورات في مستهل حداثتها. فهي تُقر بالواقع وتقر لتعدد عناصره وللقوى الضالعة فيه بشرعية متساوية أو تكاد، وهي لذلك لا تقوم على مبدأ «البدء من جديد» تتولاه، بمفردها، طليعة ما، وهي لذلك أيضاً، وسواء في صيغتها الأنكليكانية (البريطانية) أو الغاليكانية (الفرنسية)، إن استعرنا تعبيرين استخدمهما الفيلسوف والمفكر الاقتصادي فرديريك هايك في سياق مختلف نسبياً، عوضت عن الثورة بأن واكبت، كما في الحالة الأولى، تطورات الحداثة بأن لاءمت بينها وبين نظام الحكم على نحو تدريجي، أو أنها تجاوزت الانقسامات التي أحدثتها الثورة، كما في الحالة الثانية، بأن أعادت إرساء السلام الأهلي. لكل ذلك، يكاد القول بوجود «ثورة ديموقراطية»، وإن استسهله بعض الكتبة، يكون خُلفاً، تجاوزاً لفظياً لا معنى له.
هذا من حيث المبدأ، وهو، وبصفته تلك، لا يشي بالتأزم الذي سبقت الإشارة إليه ولا يفيد به، إذ أن التأزم ذاك لا يُعلل بتلك السمة التي للديموقراطية، وإن انتهزها ونشأ في كنفها ومن مقدماتها. أما مبعثه فربما كان، في وجه من أوجهه، ثمرة من ثمار نجاح خارق بلغته الديموقراطية وارتدّ عليها، هو المتمثل في كفاءتها، بالتضافر مع رخاء اقتصادي غير مسبوق في التاريخ، في إنتاج الفرد وفي إمعانها في ذلك على نحو أفضى إلى اجتراح فرد مطلق الفردية، كف، لفرط فرديته، عن أن يكون مواطناً.
وقد أسهبت كتابات كثيرة، فكريـــة أو صحافية، فـــــــي العقــــود الماضية، في توصيف ذلك الفـــرد، في إبراز نزوعه إلى المتعــوية، ضمور اكتراثه بالشأن العام، عزوفه عن السياســـة، بَرَمه بمؤسسات الانتظام الجماعي، من نقابات ومـــــن أحزاب ومن جمعيات وما إليها، ضيــــق أفقــــه وانكفائــــه علـــــى عالم هــو ذلك المتمحور حول ذاته، قلة إقباله على التصويت في الغالب الأعمّ، تلاشي الحسّ المدني لديه...
وتلك عاهات زاد طينها بلة سيطرة ما وصفه البعض بـ «الفكر الواحد»، أداة وحيدة في قراءة الواقع وفي مقاربته، قوامها التسليم بالنيوليبرالية الاقتصادية أفقاً لا مناص منه ولا سبيل إلى تجاوزه، إلا نكوصاً نحو ماضوية عقيمة غير مجدية، فانتفت بذلك ملَكة الاختيار، وهي شرط الحرية وتعريفها، وأضحت الانتخابات طقوساً، مفرغة من محتواها، دورية، كجلّ الطقوس، وفقدت وظيفتها السياسية والمجتمعية.
تلك كانت حال الديموقراطية، في الغرب وفي الولايات المتحدة تخصيصاً، في زمن الحداثة الفائقة أو «ما بعد الحداثة» كما يحلو للبعض تسميته، مسار انحدار استمر حتى الانتخابات الأميركية الأخيرة، تلك التي يمكن القول أنها أعادت إلى الأنموذج الديموقراطي ألقه ووظيفته، إذ استعادت المواطن - الناخب، فاعلاً لا يتوقف فعله عند إعادة إنتاج ما هو قائم إلى ما لا نهاية، منشغلاً بالشأن العام مقبلاً على إصلاح اختلالاته، مجترئاً على ما استقر أعرافاً في توزيع السلطة والنفوذ، محدثاً في شأنها، بانتخابه شاباً أسود، انقلاباً جذرياً، مخترعاً ذلك النصاب ما بعد العرقي الذي كان بلوغه يبدو في حكم المستحيل قبل أشهر قليلة خلت.
إن كان من شيء، أساسي وفارق، جاء به الاقتراع الأميركي الأخير فهو هذا، أي نجاحه في إعادة تفعيل الديموقراطية وفي إنهاء أزمتها، في تمكينها من فاعلية لها مستجدّة من خلال تبيئتها في واقع الحداثة الفائقة، وفي امتلاك زمام أمرها من قبل مواطنٍ عاد إلى الوجود، متجاوزاً وضعه كفرد - مستهلك حصراً، آل أمره إلى ضربٍ من تشييء، شيئاً من الأشياء التي يزعم حيازتها والتمتع بها.
ولم يكن كل ذلك بالأمر الهيّن أو مجرد استئناف لحالة قائمة أصابها خلل طارئ، بل هو يرتقي إلى مصاف إعادة الاختراع التي سينكبّ الفكر السياسي عليها، لا محالة، دراسةً واستكناهاً.
غير أن ذلك المستجدّ يستعيد قديماً هو من المميزات الفارقة للأنموذج الديموقراطي، وهو ذلك المتمثل في أن هذا الأخير مثال يُستلهم وليس نظاماً يُفرض بالقوة أو يُصدّر، على ما حاول جورج بوش وأخفق، ولا غرو في أن الانتخابات الأميركية الأخيرة أعادت إلى ذلك الأنموذج الديموقراطي مفعوله وتأثيره كمثال.
قد لا يكون صحيحاً ولا دقيقاً والحالة هذه ما ذهب إليه البعض، من أن زوال البوشية، التي كان من بنود أجندتها نشر الديموقراطية في ربوع الشرق الأوسط «الأكبر» أو «الأوسع»، من شأنه أن يطوي السعي نحو مثل ذلك النظام وأن يريح أنظمة المنطقة من عناء مكابدة الضغوط في سبيل إرسائه. فمثل ذلك، لم يحصل، أولاً، في عهد بوش، على نحو جدي، يتعدى مجرد التماس مبررات نبيلة، لحرب، هي تلك العراقية، لم تكن نبيلة، دوافع وأداءً. ثم أن نشر الديموقراطية لا يمكنه أن يكون بنداً في سياسة تدخل خارجي، ولا يمكنه أن ينال النجاعة بصفته تلك، أقله لأنه يقيم تناقضاً، كؤوداً عصيّاً، بين السيادة والديموقراطية، وقد يودي بتلك من دون أن يحقق هذه.
لذلك، فإن أكبر خدمة أسدتها الولايات المتحدة للديموقراطية في العالم، هي تلك المتمثلة في انتخاباتها الأخيرة، إذ أعادت، إلى الأنموذج الديموقراطي، على ما سبقت الإشارة، وظيفة المثال، تُخاطب من خلاله شعوب العالم ونخبه.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 30-11-2008

الخميس، 27 نوفمبر 2008

بين أوباما الرمز ... والرئيس فارق يجب أن نحتسبه

صالح بشير

هناك أوباما السياسي وهناك أوباما الرمز. أما الأول فقد يخيب آمالاً عُقدت عليه، بل هو على الأرجح، رجحاناً يداني اليقين، سيفعل، وأما الثاني، فقد أضحى ما أنجزه أو ما أُنجز بواسطته فعلاً ماضياً، متحققاً تامّاً، تحولاً تاريخي الكنه، عمقاً ومدى. الأول مجاله التوقّع، والمحاسبة والمساءلة، من منطلق يومي، دانٍ قريب، يتعلق بآني المصالح وبملحّ المشاغل، والثاني مضماره التاريخ الأوسع، تاريخ المدى الطويل، كذلك الذي تعنيه مدرسة «الحوليات» الفرنسية على سبيل المثال، وهذا لا يخضع لذات المنطق الذي يخضع له سابقه.

هما إذن مستويان متباينان تمام التباين أو يكادان، لا يجوز الخلط بينهما ولا يستقيم. أوباما الرئيس، سيكون رئيساً لكل الأميركيين، ولن يكون رئيس فئة بعينها، عرقية كتلك التي ينتمــي إليها، ما كان يمكنها بمفردها إيصاله إلى الموقع الذي بلغه، أو «إيديولوجية»، وفق المقاييس المعتادة. ولم يتفوه الرجل، طوال حملتـــه الانتخابية المديدة، بما يفيد شيئاً من هذا أو من ذاك، وهو لو فعل لما حظي بالفوز الذي نال، لعلمه بأن الانتخابات، في الديموقراطيات، مجترحـــة إجمـــاع أم معبرة عنه، لا تقـــوم إلا به، تعيد إرساءه ما إن يضع التنافس (وهذا كثيراً ما يتوسل مفردات عسكرية، من قبيل «المعركة» وما إليها) أوزاره، وهو (أي ذلك التنافس) يظل شاخصاً نحو ذلك الإجماع الذي لا يتأسس سلطان إلا عليه. لكل ذلك، ربما كان أوباما، على رغم فوزه الساحق المعلوم، أحوج رؤساء أميركا إلى مثل ذلك الإجماع، نراه يسعى إليه حتى بعد أن قال الناخب كلمته، يحيط نفسه بالكلنتونيين، استئناساً بلحظة نجاعة سابقة، وقد يحتفظ بروبيرت غيتس، وزيراً لديه للدفاع، كما سارع إلى ملاقاة خصمه في الاقتراع الأخير، جون ماكين، والتوافق معه على «العمل معاً»...

ثم أن الرئيس الأميركي المنتخب محكوم بطبيعة دولته، بموقعها وبمنزلتها بين الأمم. كانت الولايات المتحدة إمبراطورية، ممتدة الوجود والوظائف والتجليات قبل انتخاب أوباما وستظل كذلك بعد أن يتسنم ذروة الحكم على رأسها. والحال أن الإمبراطوريات إمبراطوريات فحسب، فلا هي بـ «الخيِّرة» ولا هي بـ «الشريرة». قد تتفاوت اعتدالاً أو تطرفاً في تعبيراتها عن سطوتها أو عما تحسبه اضطلاعاً بمسؤولياتٍ لها كونية، وهي لذلك قد تقدم على إصلاح النظام الدولي في بعض أوجهه واختلالاته ولكنها لن تقبل على تثويره، وهي التي تحتل منه موقع القلب، بل لا قبل لها بذلك على الأرجح، حتى إن أرادت.وفي ما يخص كل ذلك، أي كل ما هو سياسي مباشر إن جازت العبارة، لا يعدو أوباما أن يكون كسائر الرؤساء، ويتعين، تبعاً لذلك، أن يُقابل بما يتوجب من مساءلة ومن تحفظ، كذلك الجاري أصلاً والذي سيجري حتماً في المجتمع الديموقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس الجديد، بل ومن عدم استبشار بانتخابه ومن تبخيس لذلك الانتخاب وإنكار لأهميته، على ما فعل بعض المعلقين وعلى ما صرحت «فنانة عربية» تزعم لنفسها باعاً في «المقاومة» و «الممانعة» وما شاكلهما، لكن كل ذلك لا يلغي ولا يبطل ما حققه ذلك الانتخاب على الصعيد الرمزي، ولا ينال في شيء من الحماسة التي استُقبل بها، من قبل من تنبهوا إلى عناصر الجدة فيه، وطابعها المؤسس، من دون أن تعمى بصيرتهم عما عداه، فإذا هي حماسة متبصرة.

والحماسة متعددة المستويات، فهي لا تتوقف حصراً عند سابقة انتخاب أول رئيس أسود، متأت من عنصرٍ سيم استرقاقاً، ثم تمييزاً مديداً مجحفاً لا إنسانياً، وهو ما تناولته الأقلام وأسهبت في تناوله، بل تتعدى ذلك إلى أمري أساسي، هو الذي مفاده أن حملة أوباما، على فقرها البرنامجي، ثم انتخابه، أضفيا شرعية على خطاب «يساري» (بالمعنى الأوسع لكلمة «يسار»، أي غير المرتبط بإيديولوجيا بعينها) كان قد افتقدها حتى أدت إلى تلاشيه أو أنه لم يبق إلا على هيئة «مقولات» نال منها الفوات وما عادت قادرة على مخاطبة الواقع والإحاطة به. أنهت تلك الحملة وذلك الانتخاب استفراد الخطاب اليميني بالعالم، إيديولوجيا نيو-ليبرالية مغالية، استوت أفقاً وحيداً أوحد لا مخرج منه ولا مناص، أضحت تقول به حتى أحزاب «اشتراكية ديموقراطية» كانت تتصور أنها اهتدت إلى إكسير المواءمة بين متطلبات الحرية ومقتضيات العدالة الاجتماعية تتولاها «دولة الرعاية»، أو إيديولوجيات أخرى، تعارض من منطلق الهوية، تمعن في الانغلاق وفي التزمت، تمثل بعض أجلاها، وأفدحها، في الحركات المتعصبة التي قامت، واستحوذت على المبادرة، في العالم الإسلامي.

بهذا المعنى، تكون الانتخابات الأميركية الأخيرة، قد أعادت إلى العالم تعدداً، في الرأي وفي الخيارات، كان قد افتقده وأضحى منه محروماً، وأعاد إلى السجال السياسي، وإلى الشأن العام على نحو أعم، المحلي والكوني، مضامين وجوهراً، بعد أن كانا مجالاً لمجرد تراشق بـ «الصور»، وأحل النسبية محل الإطلاق.للمرة الأولى، منذ أن استتب الأمر للخطاب النيو - ليبرالي، وهذا قد لا نبالغ إن قلنا في شأنه أنه كان منتج بضائع (بما فيها البضاعة السياسية) أكثر مما كان منتج أفكار، أضحى الخطاب السياسي متنوعاً، لا يتوقف عند تبرير ما هو قائم بل يسعى إلى تجاوزه، ويرتفع بالديموقراطية، من وظائفها الإجرائية البحت، وسيلة لتداول الأطقم الحاكمة على السلطة، إلى أداة لاجتراح التحولات المجتمعية الكبرى، أي فرصة للاختيار، متاحاً للإنسان المواطن، كائناً حراً، تُقاس حريته بتلك القدرة على الاختيار، كما قدم الدليل على أن فوق التشرذم الفئوي، يعصف بالمجتمعات، وحدة يمكن بلوغها.والأمر هذا بالغ الأهمية، بصرف النظر عن تفاصيل السياسة التي سيسلكها أوباما، بصرف النظر عن تنصيبه صديقاً له إسرائيلياً كبيراً لموظفي البيت الأبيض، وبصرف النظر عن كون وصوله إلى البيت الأبيض لن يفضي حتماً وفي المستقبل المنظور، إلى تغيير موقع الفئة العرقية التي ينتمي إليها في السلم الاجتماعي...

إذ من المفروغ منه، أن أوباما القطاعي، المتعلق بمختلف أوجه مزاولته لمهامه رئيساً، لن يكون بحال من الأحوال في مستوى أوباما الرمز.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 23-11-2008

الـ"ميدياقراطية" وتصريح الظواهري

صالح بشير

في مقالة رأي نشرتها مجلة «تايم» الأميركية في أحد أعدادها الأخيرة، نحا كاتبها، توني كارون، باللائمة على وسائل الإعلام في بلاده لفرط اهتمامها بتصريح لأيمن الظواهري، جاء نابي الألفاظ لا يتورع عن العنصرية في أكثر تجلياتها وضاعة، إذ وصف الرئيس الأميركي المنتخب، غامزا من قناة مَحْتِده العرقي ولون بشرته، بأنه «عبد البيت».

أشار كاتب «التايم» المذكور إلى تلك الواقعة، فأخذ على وسائل الإعلام تلك إحلالها تصريح الظواهري مركز الصدارة، حيث أفردت له الصحف، في طول البلاد وعرضها، صفحاتها الأولى، وتناولته القنوات التلفزيونية وأسرفت، فمكنت ذلك التصريح من ترويج ليس أهلا له، وأسبغت على تنظيم «القاعدة» وعلى زعيمه الثاني أو زعيمه المساعد تأثيرا في مجريات الأمور لا قبل لهما به.

ويثير رد الفعل هذا إشكالا يتعدى تلك الواقعة وهذا الآن، إلى مشكلة وسائل الإعلام، سواء في الديمقراطيات، حيث تحظى بحرية تكاد تكون مطلقة، أو في سواها، بعد أن مكنتها الوسائل التكنولوجية الحديثة مما من شأنه أن يجعلها في حِلّ من حدود الرقابة عليها ومن عوائقها في الإيصال. وقد تعاظم شأن تلك الوسائل، وقد باتت تتسمى «ميديا» أو «اتصالا»، وحازت من النفوذ أشدّه، حتى ابتدع بعض الباحثين والمفكرين مفهوما (ومصطلحا يحدده ويستوفيه) هو الـ«ميدياقراطية» (mediacracy)، أي حكم الميديا ووسائلها.

ذلك المصطلح عرّفه، مع أنه حديث العهد لمّا ينتشرْ على الألسنة ولم تلهج به، أحد القواميس كالتالي: «الميدياقراطية، هي الحكم، غير المباشر في العادة، بوسائل الميديا الشعبية، عادةً بسبب اضطراب يعتري الديمقراطية. وهي نظام يكف فيه الساسة عن التفكير، ويبدؤون في الاستماع حصرا إلى وسائل الميديا في ما يتعلق بتحديد ماهية القضايا الكبرى، وما الذي يتوجب عليهم فعله بشأنها»... وذلك ما قد يقدم تعاطي الإعلام الأميركي مع تصريح الظواهري عيّنة عليه، إذ استحوذت الميديا في ذلك الشأن على صلاحية تعيين أهمية ردود الفعل الخارجية، محتوى ومأتى، على انتخاب أوباما، وأحلت ما صدر منها عن تنظيم القاعدة في موقع الصدارة، برسم جمهور واقع تحت تأثيرها، ومؤثر بدوره في صانع القرار، عاملة بذلك على صياغة أولويات الولايات المتحدة، من استراتيجية وسواها، على ما فعلت مرارا طوال السنوات الماضية، ما جعل صاحب القرار أو الطامح إلى امتلاك زمامه، يأتمر، إن مبادرة أو إحجاما، بأمر استطلاعات الرأي، وهذه جزء من تلك «الميدياقراطية» لا يتجزأ.

لا اعتراض، مبدئيا، على ذلك. فالإعلام، حتى إن أضحى ميديا «سلطة رابعة»، أقله في الديمقراطيات، ولكن المشكلة أن السلطة تلك، على خلاف بقية السلطات الأخرى، ليست معرّفة ولا محددة الصلاحيات، إذ لا تخضع، في نهاية أمرها، إلا إلى مبدأ عام هو المتعلق بـ«حرية التعبير»، يعتبر هذا الأخير حقا مطلقا. وعدا عن أن ذلك الحق لا يختص بالإعلام حصرا، فهو إلى ذلك لا يتحدد، قانوناً، إلا على نحو سلبيّ، إن جازت العبارة، إذ ليس هناك من تحديد قانوني لحرية التعبير إلا ذلك المتعلق بالمخالفات التي قد تنجرّ عن مزاولتها أو بالجنح المرتكبة في حقها.

ربما كان ذلك كافيا يفي بالغرض في ما مضى من تاريخ الديمقراطيات، عندما كان يوجد عرف، ميتا-أخلاقي، يضبط الحياة العامة وتأخذ به الجموع والنخب، أضحى الآن مفقودا، بفعل تضافر عاملين على الأقل، أولهما تنامي الفردية واستفحالها، في ظل اقتصاد السوق، على نحو أفضى إلى تحويل المواطن، الذي يُفترض فيه أن يكون اللبنة الأولى للنظام الديمقراطي، إلى مجرد مستهلك لكل شيء، بما في ذلك للخبر والرأي، وثانيهما، المترتب على الأول، تسليع الميديا ومحتواها بواسطة الصورة، بمعناها الأوسع، تزيّن لذلك المستهلك ذلك الأمر الذي أضحى مجرد منتج من المنتجات، تخاطب في ذلك الغرائز بواسطة الإثارة وما إليها من وسائل الترغيب والترهيب. وقد بلغ من شطط ذلك المنحى أن غدا الساسة يتوخون ما يعرف بإعلام «البيبل» (people)، ذلك الشعبي والمختص في متابعة حياة النجوم، أهل فن ورياضة و«مجتمع»، ينسجون على منواله ويندرجون في منطقه ويتبنون تقنياته، فيعرضون على الناس وقائع حياتهم، بل فضائحها أحيانا، أكثر مما يعرضون أفكارهم وبرامجهم.

ومن منظور «عالم» ميدياقراطي كذلك، لا شك في أن رد فعل تنظيم «القاعدة» على انتخاب أوباما، خصوصا أنه مال إلى الإثارة والاستفزاز بما تعمّده من نابي الألفاظ العنصرية، إذ يخاطب هواجس قائمة، بلغت مبلغا لا عقلانيا، منذ عدوان الحادي عشر من سبتمبر، بدا أكثر مدعاة للاهتمام، من كل السجال الدائر في العالمين العربي والإسلامي، بل في العالم، حول فوز أوباما، استخلاصا لمآلاته المحتملة واستكناهاً لدلالاته.

يبقى أن تلك الميدياقراطية ليست شأنا يعني المجتمعات الرأسمالية المتقدمة بمفردها، بل هي ظاهرة كونية، وذلك شأن آخر، يتطلب تناولا على حدة.

نُشر في صحيفة "الجريدة" بتاريخ 25-11-2008