الأحد، 30 نوفمبر 2008

انتخاب اوباما بصفته إنهاء لأزمة الديموقراطية وعلاجاً من النيوليبرالية

صالح بشير

أنهى الأنموذج الديموقراطي الحرب الباردة ظافراً منتصراً، ولكنه خرج من تلك المواجهة ضد المعسكر التوتاليتاري، «إمبراطورية الشر» كما سماها رونالد ريغان وهو يخوض ضدها الجولة الأخيرة والحاسمة، منهكاً مستَنفَداً متأزماً.
من هنا قصر عمر يوتوبيا «نهاية التاريخ» (أو اختتامه وفق تعبير أفضل)، ومن هنا خيبة التفاؤل الذي كان استشرى في شأن انتشار الديموقراطية في تسعينات القرن الماضي، والذي ما لبث أن انحطّ على يدي جورج بوش، وعلى أيدي إدارته ومحافظيه الجدد، إلى محض إرادوية إيديولوجية باءت بفشلها المعلوم. ذلك أن الأنموذج الديموقراطي بلغ طور الغلبة والانفراد وهو عاجز عن أن ينهض بأية «يوتوبيا».
ربما عاد ذلك إلى طبيعة الدعوة الديموقراطية، وهي ليست بالقيامية ولا بالخلاصية، تدحض الصفتين تينك وتنكرهما على نفسها وقامت عنهما بديلاً أو حاولت ذلك، منذ أن استبدّت بأوروبا حمّى الثورات في مستهل حداثتها. فهي تُقر بالواقع وتقر لتعدد عناصره وللقوى الضالعة فيه بشرعية متساوية أو تكاد، وهي لذلك لا تقوم على مبدأ «البدء من جديد» تتولاه، بمفردها، طليعة ما، وهي لذلك أيضاً، وسواء في صيغتها الأنكليكانية (البريطانية) أو الغاليكانية (الفرنسية)، إن استعرنا تعبيرين استخدمهما الفيلسوف والمفكر الاقتصادي فرديريك هايك في سياق مختلف نسبياً، عوضت عن الثورة بأن واكبت، كما في الحالة الأولى، تطورات الحداثة بأن لاءمت بينها وبين نظام الحكم على نحو تدريجي، أو أنها تجاوزت الانقسامات التي أحدثتها الثورة، كما في الحالة الثانية، بأن أعادت إرساء السلام الأهلي. لكل ذلك، يكاد القول بوجود «ثورة ديموقراطية»، وإن استسهله بعض الكتبة، يكون خُلفاً، تجاوزاً لفظياً لا معنى له.
هذا من حيث المبدأ، وهو، وبصفته تلك، لا يشي بالتأزم الذي سبقت الإشارة إليه ولا يفيد به، إذ أن التأزم ذاك لا يُعلل بتلك السمة التي للديموقراطية، وإن انتهزها ونشأ في كنفها ومن مقدماتها. أما مبعثه فربما كان، في وجه من أوجهه، ثمرة من ثمار نجاح خارق بلغته الديموقراطية وارتدّ عليها، هو المتمثل في كفاءتها، بالتضافر مع رخاء اقتصادي غير مسبوق في التاريخ، في إنتاج الفرد وفي إمعانها في ذلك على نحو أفضى إلى اجتراح فرد مطلق الفردية، كف، لفرط فرديته، عن أن يكون مواطناً.
وقد أسهبت كتابات كثيرة، فكريـــة أو صحافية، فـــــــي العقــــود الماضية، في توصيف ذلك الفـــرد، في إبراز نزوعه إلى المتعــوية، ضمور اكتراثه بالشأن العام، عزوفه عن السياســـة، بَرَمه بمؤسسات الانتظام الجماعي، من نقابات ومـــــن أحزاب ومن جمعيات وما إليها، ضيــــق أفقــــه وانكفائــــه علـــــى عالم هــو ذلك المتمحور حول ذاته، قلة إقباله على التصويت في الغالب الأعمّ، تلاشي الحسّ المدني لديه...
وتلك عاهات زاد طينها بلة سيطرة ما وصفه البعض بـ «الفكر الواحد»، أداة وحيدة في قراءة الواقع وفي مقاربته، قوامها التسليم بالنيوليبرالية الاقتصادية أفقاً لا مناص منه ولا سبيل إلى تجاوزه، إلا نكوصاً نحو ماضوية عقيمة غير مجدية، فانتفت بذلك ملَكة الاختيار، وهي شرط الحرية وتعريفها، وأضحت الانتخابات طقوساً، مفرغة من محتواها، دورية، كجلّ الطقوس، وفقدت وظيفتها السياسية والمجتمعية.
تلك كانت حال الديموقراطية، في الغرب وفي الولايات المتحدة تخصيصاً، في زمن الحداثة الفائقة أو «ما بعد الحداثة» كما يحلو للبعض تسميته، مسار انحدار استمر حتى الانتخابات الأميركية الأخيرة، تلك التي يمكن القول أنها أعادت إلى الأنموذج الديموقراطي ألقه ووظيفته، إذ استعادت المواطن - الناخب، فاعلاً لا يتوقف فعله عند إعادة إنتاج ما هو قائم إلى ما لا نهاية، منشغلاً بالشأن العام مقبلاً على إصلاح اختلالاته، مجترئاً على ما استقر أعرافاً في توزيع السلطة والنفوذ، محدثاً في شأنها، بانتخابه شاباً أسود، انقلاباً جذرياً، مخترعاً ذلك النصاب ما بعد العرقي الذي كان بلوغه يبدو في حكم المستحيل قبل أشهر قليلة خلت.
إن كان من شيء، أساسي وفارق، جاء به الاقتراع الأميركي الأخير فهو هذا، أي نجاحه في إعادة تفعيل الديموقراطية وفي إنهاء أزمتها، في تمكينها من فاعلية لها مستجدّة من خلال تبيئتها في واقع الحداثة الفائقة، وفي امتلاك زمام أمرها من قبل مواطنٍ عاد إلى الوجود، متجاوزاً وضعه كفرد - مستهلك حصراً، آل أمره إلى ضربٍ من تشييء، شيئاً من الأشياء التي يزعم حيازتها والتمتع بها.
ولم يكن كل ذلك بالأمر الهيّن أو مجرد استئناف لحالة قائمة أصابها خلل طارئ، بل هو يرتقي إلى مصاف إعادة الاختراع التي سينكبّ الفكر السياسي عليها، لا محالة، دراسةً واستكناهاً.
غير أن ذلك المستجدّ يستعيد قديماً هو من المميزات الفارقة للأنموذج الديموقراطي، وهو ذلك المتمثل في أن هذا الأخير مثال يُستلهم وليس نظاماً يُفرض بالقوة أو يُصدّر، على ما حاول جورج بوش وأخفق، ولا غرو في أن الانتخابات الأميركية الأخيرة أعادت إلى ذلك الأنموذج الديموقراطي مفعوله وتأثيره كمثال.
قد لا يكون صحيحاً ولا دقيقاً والحالة هذه ما ذهب إليه البعض، من أن زوال البوشية، التي كان من بنود أجندتها نشر الديموقراطية في ربوع الشرق الأوسط «الأكبر» أو «الأوسع»، من شأنه أن يطوي السعي نحو مثل ذلك النظام وأن يريح أنظمة المنطقة من عناء مكابدة الضغوط في سبيل إرسائه. فمثل ذلك، لم يحصل، أولاً، في عهد بوش، على نحو جدي، يتعدى مجرد التماس مبررات نبيلة، لحرب، هي تلك العراقية، لم تكن نبيلة، دوافع وأداءً. ثم أن نشر الديموقراطية لا يمكنه أن يكون بنداً في سياسة تدخل خارجي، ولا يمكنه أن ينال النجاعة بصفته تلك، أقله لأنه يقيم تناقضاً، كؤوداً عصيّاً، بين السيادة والديموقراطية، وقد يودي بتلك من دون أن يحقق هذه.
لذلك، فإن أكبر خدمة أسدتها الولايات المتحدة للديموقراطية في العالم، هي تلك المتمثلة في انتخاباتها الأخيرة، إذ أعادت، إلى الأنموذج الديموقراطي، على ما سبقت الإشارة، وظيفة المثال، تُخاطب من خلاله شعوب العالم ونخبه.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 30-11-2008

الخميس، 27 نوفمبر 2008

بين أوباما الرمز ... والرئيس فارق يجب أن نحتسبه

صالح بشير

هناك أوباما السياسي وهناك أوباما الرمز. أما الأول فقد يخيب آمالاً عُقدت عليه، بل هو على الأرجح، رجحاناً يداني اليقين، سيفعل، وأما الثاني، فقد أضحى ما أنجزه أو ما أُنجز بواسطته فعلاً ماضياً، متحققاً تامّاً، تحولاً تاريخي الكنه، عمقاً ومدى. الأول مجاله التوقّع، والمحاسبة والمساءلة، من منطلق يومي، دانٍ قريب، يتعلق بآني المصالح وبملحّ المشاغل، والثاني مضماره التاريخ الأوسع، تاريخ المدى الطويل، كذلك الذي تعنيه مدرسة «الحوليات» الفرنسية على سبيل المثال، وهذا لا يخضع لذات المنطق الذي يخضع له سابقه.

هما إذن مستويان متباينان تمام التباين أو يكادان، لا يجوز الخلط بينهما ولا يستقيم. أوباما الرئيس، سيكون رئيساً لكل الأميركيين، ولن يكون رئيس فئة بعينها، عرقية كتلك التي ينتمــي إليها، ما كان يمكنها بمفردها إيصاله إلى الموقع الذي بلغه، أو «إيديولوجية»، وفق المقاييس المعتادة. ولم يتفوه الرجل، طوال حملتـــه الانتخابية المديدة، بما يفيد شيئاً من هذا أو من ذاك، وهو لو فعل لما حظي بالفوز الذي نال، لعلمه بأن الانتخابات، في الديموقراطيات، مجترحـــة إجمـــاع أم معبرة عنه، لا تقـــوم إلا به، تعيد إرساءه ما إن يضع التنافس (وهذا كثيراً ما يتوسل مفردات عسكرية، من قبيل «المعركة» وما إليها) أوزاره، وهو (أي ذلك التنافس) يظل شاخصاً نحو ذلك الإجماع الذي لا يتأسس سلطان إلا عليه. لكل ذلك، ربما كان أوباما، على رغم فوزه الساحق المعلوم، أحوج رؤساء أميركا إلى مثل ذلك الإجماع، نراه يسعى إليه حتى بعد أن قال الناخب كلمته، يحيط نفسه بالكلنتونيين، استئناساً بلحظة نجاعة سابقة، وقد يحتفظ بروبيرت غيتس، وزيراً لديه للدفاع، كما سارع إلى ملاقاة خصمه في الاقتراع الأخير، جون ماكين، والتوافق معه على «العمل معاً»...

ثم أن الرئيس الأميركي المنتخب محكوم بطبيعة دولته، بموقعها وبمنزلتها بين الأمم. كانت الولايات المتحدة إمبراطورية، ممتدة الوجود والوظائف والتجليات قبل انتخاب أوباما وستظل كذلك بعد أن يتسنم ذروة الحكم على رأسها. والحال أن الإمبراطوريات إمبراطوريات فحسب، فلا هي بـ «الخيِّرة» ولا هي بـ «الشريرة». قد تتفاوت اعتدالاً أو تطرفاً في تعبيراتها عن سطوتها أو عما تحسبه اضطلاعاً بمسؤولياتٍ لها كونية، وهي لذلك قد تقدم على إصلاح النظام الدولي في بعض أوجهه واختلالاته ولكنها لن تقبل على تثويره، وهي التي تحتل منه موقع القلب، بل لا قبل لها بذلك على الأرجح، حتى إن أرادت.وفي ما يخص كل ذلك، أي كل ما هو سياسي مباشر إن جازت العبارة، لا يعدو أوباما أن يكون كسائر الرؤساء، ويتعين، تبعاً لذلك، أن يُقابل بما يتوجب من مساءلة ومن تحفظ، كذلك الجاري أصلاً والذي سيجري حتماً في المجتمع الديموقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس الجديد، بل ومن عدم استبشار بانتخابه ومن تبخيس لذلك الانتخاب وإنكار لأهميته، على ما فعل بعض المعلقين وعلى ما صرحت «فنانة عربية» تزعم لنفسها باعاً في «المقاومة» و «الممانعة» وما شاكلهما، لكن كل ذلك لا يلغي ولا يبطل ما حققه ذلك الانتخاب على الصعيد الرمزي، ولا ينال في شيء من الحماسة التي استُقبل بها، من قبل من تنبهوا إلى عناصر الجدة فيه، وطابعها المؤسس، من دون أن تعمى بصيرتهم عما عداه، فإذا هي حماسة متبصرة.

والحماسة متعددة المستويات، فهي لا تتوقف حصراً عند سابقة انتخاب أول رئيس أسود، متأت من عنصرٍ سيم استرقاقاً، ثم تمييزاً مديداً مجحفاً لا إنسانياً، وهو ما تناولته الأقلام وأسهبت في تناوله، بل تتعدى ذلك إلى أمري أساسي، هو الذي مفاده أن حملة أوباما، على فقرها البرنامجي، ثم انتخابه، أضفيا شرعية على خطاب «يساري» (بالمعنى الأوسع لكلمة «يسار»، أي غير المرتبط بإيديولوجيا بعينها) كان قد افتقدها حتى أدت إلى تلاشيه أو أنه لم يبق إلا على هيئة «مقولات» نال منها الفوات وما عادت قادرة على مخاطبة الواقع والإحاطة به. أنهت تلك الحملة وذلك الانتخاب استفراد الخطاب اليميني بالعالم، إيديولوجيا نيو-ليبرالية مغالية، استوت أفقاً وحيداً أوحد لا مخرج منه ولا مناص، أضحت تقول به حتى أحزاب «اشتراكية ديموقراطية» كانت تتصور أنها اهتدت إلى إكسير المواءمة بين متطلبات الحرية ومقتضيات العدالة الاجتماعية تتولاها «دولة الرعاية»، أو إيديولوجيات أخرى، تعارض من منطلق الهوية، تمعن في الانغلاق وفي التزمت، تمثل بعض أجلاها، وأفدحها، في الحركات المتعصبة التي قامت، واستحوذت على المبادرة، في العالم الإسلامي.

بهذا المعنى، تكون الانتخابات الأميركية الأخيرة، قد أعادت إلى العالم تعدداً، في الرأي وفي الخيارات، كان قد افتقده وأضحى منه محروماً، وأعاد إلى السجال السياسي، وإلى الشأن العام على نحو أعم، المحلي والكوني، مضامين وجوهراً، بعد أن كانا مجالاً لمجرد تراشق بـ «الصور»، وأحل النسبية محل الإطلاق.للمرة الأولى، منذ أن استتب الأمر للخطاب النيو - ليبرالي، وهذا قد لا نبالغ إن قلنا في شأنه أنه كان منتج بضائع (بما فيها البضاعة السياسية) أكثر مما كان منتج أفكار، أضحى الخطاب السياسي متنوعاً، لا يتوقف عند تبرير ما هو قائم بل يسعى إلى تجاوزه، ويرتفع بالديموقراطية، من وظائفها الإجرائية البحت، وسيلة لتداول الأطقم الحاكمة على السلطة، إلى أداة لاجتراح التحولات المجتمعية الكبرى، أي فرصة للاختيار، متاحاً للإنسان المواطن، كائناً حراً، تُقاس حريته بتلك القدرة على الاختيار، كما قدم الدليل على أن فوق التشرذم الفئوي، يعصف بالمجتمعات، وحدة يمكن بلوغها.والأمر هذا بالغ الأهمية، بصرف النظر عن تفاصيل السياسة التي سيسلكها أوباما، بصرف النظر عن تنصيبه صديقاً له إسرائيلياً كبيراً لموظفي البيت الأبيض، وبصرف النظر عن كون وصوله إلى البيت الأبيض لن يفضي حتماً وفي المستقبل المنظور، إلى تغيير موقع الفئة العرقية التي ينتمي إليها في السلم الاجتماعي...

إذ من المفروغ منه، أن أوباما القطاعي، المتعلق بمختلف أوجه مزاولته لمهامه رئيساً، لن يكون بحال من الأحوال في مستوى أوباما الرمز.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 23-11-2008

الـ"ميدياقراطية" وتصريح الظواهري

صالح بشير

في مقالة رأي نشرتها مجلة «تايم» الأميركية في أحد أعدادها الأخيرة، نحا كاتبها، توني كارون، باللائمة على وسائل الإعلام في بلاده لفرط اهتمامها بتصريح لأيمن الظواهري، جاء نابي الألفاظ لا يتورع عن العنصرية في أكثر تجلياتها وضاعة، إذ وصف الرئيس الأميركي المنتخب، غامزا من قناة مَحْتِده العرقي ولون بشرته، بأنه «عبد البيت».

أشار كاتب «التايم» المذكور إلى تلك الواقعة، فأخذ على وسائل الإعلام تلك إحلالها تصريح الظواهري مركز الصدارة، حيث أفردت له الصحف، في طول البلاد وعرضها، صفحاتها الأولى، وتناولته القنوات التلفزيونية وأسرفت، فمكنت ذلك التصريح من ترويج ليس أهلا له، وأسبغت على تنظيم «القاعدة» وعلى زعيمه الثاني أو زعيمه المساعد تأثيرا في مجريات الأمور لا قبل لهما به.

ويثير رد الفعل هذا إشكالا يتعدى تلك الواقعة وهذا الآن، إلى مشكلة وسائل الإعلام، سواء في الديمقراطيات، حيث تحظى بحرية تكاد تكون مطلقة، أو في سواها، بعد أن مكنتها الوسائل التكنولوجية الحديثة مما من شأنه أن يجعلها في حِلّ من حدود الرقابة عليها ومن عوائقها في الإيصال. وقد تعاظم شأن تلك الوسائل، وقد باتت تتسمى «ميديا» أو «اتصالا»، وحازت من النفوذ أشدّه، حتى ابتدع بعض الباحثين والمفكرين مفهوما (ومصطلحا يحدده ويستوفيه) هو الـ«ميدياقراطية» (mediacracy)، أي حكم الميديا ووسائلها.

ذلك المصطلح عرّفه، مع أنه حديث العهد لمّا ينتشرْ على الألسنة ولم تلهج به، أحد القواميس كالتالي: «الميدياقراطية، هي الحكم، غير المباشر في العادة، بوسائل الميديا الشعبية، عادةً بسبب اضطراب يعتري الديمقراطية. وهي نظام يكف فيه الساسة عن التفكير، ويبدؤون في الاستماع حصرا إلى وسائل الميديا في ما يتعلق بتحديد ماهية القضايا الكبرى، وما الذي يتوجب عليهم فعله بشأنها»... وذلك ما قد يقدم تعاطي الإعلام الأميركي مع تصريح الظواهري عيّنة عليه، إذ استحوذت الميديا في ذلك الشأن على صلاحية تعيين أهمية ردود الفعل الخارجية، محتوى ومأتى، على انتخاب أوباما، وأحلت ما صدر منها عن تنظيم القاعدة في موقع الصدارة، برسم جمهور واقع تحت تأثيرها، ومؤثر بدوره في صانع القرار، عاملة بذلك على صياغة أولويات الولايات المتحدة، من استراتيجية وسواها، على ما فعلت مرارا طوال السنوات الماضية، ما جعل صاحب القرار أو الطامح إلى امتلاك زمامه، يأتمر، إن مبادرة أو إحجاما، بأمر استطلاعات الرأي، وهذه جزء من تلك «الميدياقراطية» لا يتجزأ.

لا اعتراض، مبدئيا، على ذلك. فالإعلام، حتى إن أضحى ميديا «سلطة رابعة»، أقله في الديمقراطيات، ولكن المشكلة أن السلطة تلك، على خلاف بقية السلطات الأخرى، ليست معرّفة ولا محددة الصلاحيات، إذ لا تخضع، في نهاية أمرها، إلا إلى مبدأ عام هو المتعلق بـ«حرية التعبير»، يعتبر هذا الأخير حقا مطلقا. وعدا عن أن ذلك الحق لا يختص بالإعلام حصرا، فهو إلى ذلك لا يتحدد، قانوناً، إلا على نحو سلبيّ، إن جازت العبارة، إذ ليس هناك من تحديد قانوني لحرية التعبير إلا ذلك المتعلق بالمخالفات التي قد تنجرّ عن مزاولتها أو بالجنح المرتكبة في حقها.

ربما كان ذلك كافيا يفي بالغرض في ما مضى من تاريخ الديمقراطيات، عندما كان يوجد عرف، ميتا-أخلاقي، يضبط الحياة العامة وتأخذ به الجموع والنخب، أضحى الآن مفقودا، بفعل تضافر عاملين على الأقل، أولهما تنامي الفردية واستفحالها، في ظل اقتصاد السوق، على نحو أفضى إلى تحويل المواطن، الذي يُفترض فيه أن يكون اللبنة الأولى للنظام الديمقراطي، إلى مجرد مستهلك لكل شيء، بما في ذلك للخبر والرأي، وثانيهما، المترتب على الأول، تسليع الميديا ومحتواها بواسطة الصورة، بمعناها الأوسع، تزيّن لذلك المستهلك ذلك الأمر الذي أضحى مجرد منتج من المنتجات، تخاطب في ذلك الغرائز بواسطة الإثارة وما إليها من وسائل الترغيب والترهيب. وقد بلغ من شطط ذلك المنحى أن غدا الساسة يتوخون ما يعرف بإعلام «البيبل» (people)، ذلك الشعبي والمختص في متابعة حياة النجوم، أهل فن ورياضة و«مجتمع»، ينسجون على منواله ويندرجون في منطقه ويتبنون تقنياته، فيعرضون على الناس وقائع حياتهم، بل فضائحها أحيانا، أكثر مما يعرضون أفكارهم وبرامجهم.

ومن منظور «عالم» ميدياقراطي كذلك، لا شك في أن رد فعل تنظيم «القاعدة» على انتخاب أوباما، خصوصا أنه مال إلى الإثارة والاستفزاز بما تعمّده من نابي الألفاظ العنصرية، إذ يخاطب هواجس قائمة، بلغت مبلغا لا عقلانيا، منذ عدوان الحادي عشر من سبتمبر، بدا أكثر مدعاة للاهتمام، من كل السجال الدائر في العالمين العربي والإسلامي، بل في العالم، حول فوز أوباما، استخلاصا لمآلاته المحتملة واستكناهاً لدلالاته.

يبقى أن تلك الميدياقراطية ليست شأنا يعني المجتمعات الرأسمالية المتقدمة بمفردها، بل هي ظاهرة كونية، وذلك شأن آخر، يتطلب تناولا على حدة.

نُشر في صحيفة "الجريدة" بتاريخ 25-11-2008