الأحد، 4 يناير 2009

المسؤولية في عيون المعارضة

صالح بشير

لا تقيم معارضات المنطقة، في الغالب الأعم، لمسألة «السيادة» كبير اعتبار. لها في ذلك على الأرجح اعتباران، واحد آني، هو المتمثل في تهربها مما قد تراه ابتزازا، تسلطه أنظمة تحسب نفسها مناط السيادة الحصري وتتماهى معها، فتميل إلى مساواة كل فعل اعتراض عليها مع لا ما يقل عن الخيانة الوطنية أو ما يندرج في عدادها، والآخر، وهو وثيق الصلة بالأول، تكويني تأسيسي، يستند إلى رؤية تفيد بأن الكيانات «الوطنية» عديمة الشرعية، بمعيار الانتماء إلى «الأمة» أو إلى الوحدة العضوية الأصغر، وأن صفتها تلك تنسحب استطرادا على الدول القائمة عليها.
يتجلى مثل ذلك الموقف في مثالين قد يكونان أقصيين، نهض بأحدهما حزب «الله اللبناني»، لا سيما في صائفة 2006، عندما استدرج حربا خارجية على البلد، دون أن يستشير أحدا من مكوناته، ناهيك عما يُفترض أنه سلطاته النافذة والمحرزة على الاعتراف الدولي بصفتها تلك، وتولت الثاني المعارضة العراقية لصدام حسين، تلك التي حثّ بعضها على الغزو وأبدى تواطؤاً معه، نشيطاً أو سلبياً اكتفى بعدم الاعتراض عليه وبالنظر إلى الناحية الثانية، فصير في الحالتين إلى التضحية بـ«السيادة» من أجل إسقاط نظام غاشم مقيت، مما يفصح عن الكثير حول الأولويات وكيفية ترتيبها. وبين الموقفين ذينك تنويعات كثيرة من قبيلهما وإن كانت أقل دراماتيكية، استدراجا لتدخل أو شكوى، مزرية في حالات كثيرة، تُرفع إلى هيئات خارجية، ليست كلها بالمراتب الدولية أو القيمية التي يُتوسم فيها الحياد، بل هي دول ومصادر نفوذ ليست براء من فئوي المصالح ومما كان منها أنانيا.
لكل ذلك، فإن تهم «الاستقواء بالأجنبي»، تطلقها الأنظمة في وجه مناوئيها، ليست بالضرورة مردودة ولا هي عديمة القيمة، وإن كانت أحيانا من كلام الحق الذي يراد به باطل، بل هي قد لا تخلو من وجاهة، فسواء استحقت تلك الأنظمة أم لم تستحق، فهي عمليا مناط «السيادة» أو هكذا تلوح في نظر العالم وهيئاته الناظمة التي تتعامل معها على هذا الأساس، أقله نظريا ووفق ما يقتضيه القانون الدولي. صحيح أن الأنظمة تلك قد تستخدم أحيانا مبدأ «السيادة» ذاك لمصلحتها، وأنها قد تخلط أحيانا بين ائتمانها على تلك الصلاحية وبين امتلاكها لها، ومن هنا مغزى «الحق في التدخل» الذي استُنهض في تسعينيات القرن الماضي ضد طغاة، شأن الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، نكلوا في حق شعوبهم، ولكن ما لاشك فيه من وجه آخر أن مبدأ «السيادة» ذلك قائم، لبنة أساسية يقوم عليها كل اجتماع سياسي وكل معمار عالمي، أقله حتى إشعار آخر، كأن تتحقق، على سبيل المثال، نبوءة كانط حول «السلام الأبدي».
وذلك، بعد أن يتعين القبول والإقرار به، في معرض القبول بالأوطان والإقرار بها، وهذه، على ما دلت التجربة ولا تنفك تدل، لا مجال لسياسة من خارجها أو من دونها، لسبب بسيط هو أن كل سياسة عدا تلك غير عملية، وغير مجدية تاليا أو عكسية المفعول، فهي إما نكوص عن هذه الأخيرة إلى ما دون الوطني، وإما تجاوز لها نحو التهويمات الإيديولوجية.
عاملان على الأقل يدعوان إلى ذينك الإقرار والقبول، أولهما أن مبدأ «السيادة» ذاك يضطلع بوظيفة تأسيسية، فهو الذي يرسم إطارا، مفهوميا وترابيا، تجري السياسة في بعدها الداخلي في كنفه، وفي بعدها الخارجي بالاستناد إليه، وهو لذلك يمثل المعطى القبْلي الذي يتعين أن يبقى بمنأى عن الصراع السياسي بين السلطة ومعارضيها، وهو من وجه آخر، وذلك هو العامل الثاني، لا ينفك يتأكد بوصفه الرهان الأساسي للحياة الدولية، إذ لم تعد سيادة الأوطان والدول تحصيل حاصل، رديفاً لنيل الاستقلال كما كانت الحال في موفّى الفترة الاستعمارية، بل أضحت صلاحية قابلة للانتقاص أو للإلغاء، باسم متطلبات العولمة أو باسم قيم تزعم كونية أو باسم نفوذ يعبر عن نفسه سافرا بطبيعته تلك، على ما حصل طوال فترة الرئيس الأميركي الآيل إلى انصراف جورج بوش...
قصارى القول من كل ما سبق وجود مبادئ بعينها، وعلى رأسها مبدأ «السيادة» والحرص عليه، هي مما يمنح العمل السياسي شرعيته، سواء تمثل في السلطة أم في المعارضة، وأن هذه الأخيرة التي لا تملك غالبا من المسوغات غير زعمها التصدي لوظيفتها تلك، لا يمكنها أن تؤسس فعلها ذاك إلا على أساس الأخذ بذلك المبدأ، يسبق لديها السلطة ويجيز المطالبة بهذه الأخيرة، أي يمنحها صفة الطرف السياسي، مسبّقا مبدأ «المسؤولية» على مبدأ السلطة، اختبارا قد يفضي إلى هذه الأخيرة، من باب المشاركة أو السعي في طلبها انفراداً.

نُشر في يومية "الجريدة" الكويتية"، بتاريخ 30-12-2008

الإيديولوجيا، كما نفهمها، لا تزال العائق الأكبر بيننا وبين الواقع

صالح بشير

لا غرو في أن الإيديولوجيا مفارقة دوما مجافية، وإلا لو انطبق خطابها على واقع بعينه وعلى وقائع لأضحت علما متعلقا بهذه وبذاك، وتلك مكانة لم تبلغها وإن ادعتها لنفسها في بعض الأحيان. غير أنه يمكن الزعم بأنه لم يقيض للإديولوجيا أن بلغت ذلك الشأو المفارق والمجافي كما هي الحال في هذه المنطقة.
ففي كل مقام آخر وفي كل تجربة أخرى، تتطابق الإيديولوجيا في مكان ما أو على صعيد ما مع الواقع، وذلك ما يجعلها قادرة على الفعل فيه، أي أنها تقيم مع ذلك الواقع آصرة فعلية لا مجرد وشيجة موهومة أو افتراضية. خذ مثلا الإيديولوجيا القومية كما عرفتها أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، بما في ذلك مآلاتها القصوى ممثلة في النازية وفي الفاشية، حيث ما كان يمكن للإيديولوجيا تلك أن تقوم لو لم يُصر إلى تجاوز النموذج الإمبراطوري السابق وإلى الإقرار بفواته، أي لو لم تستو الواقعة القومية، بالمعنى «الوطني»، لا ذلك العابر للأوطان على ما هي في قاموس هذه المنطقة، أفق تطور تاريخي لا مناص منه ولا محيد.
وقس على ذلك الاشتراكية التي لم تتأكد إلا نتيجة تطور أدت إليه الثورة الرأسمالية، فجاءت نقيضا لها يتمثل شرطُ وجودها في أنها مستخلصة من تلك الرأسمالية، طبقات اجتماعية وثقافة اعتراض ما كان يمكنها إلا أن تنشأ عنها وفي كنفها. بل ربما جاز القول إن تجربة كتلك السوفياتية ما كان يمكنها الحفاظ على إرث روسيا، إمبراطورية ما فوق قومية واستبدادا مقيما وحسا توسعيا، إلا بأخذ الواقعة الرأسمالية ونظامها ودولتها بعين الاعتبار، وافتعال نفسها تجاوزا لتلك الواقعة يستأنفها ويذهب بمنطقها إلى مداه الأبعد، فاتخذت من الإيديولوجيا الشيوعية أداة لذلك.
كل ذلك للقول بأن الإيديولوجيا، وإن سعت إلى التمويه، تقيم آصرة مع الواقع، جزئية أو مداوِرة، فلا تنبذه أو لا تفعل ذلك إلا من باب تحقيقه، استباقا أو إنجازا، بصورة من الصور وبشكل من الأشكال، وقد يصحّ ذلك على كل الحالات المشابهة إلا على حال هذه المنطقة، حيث يلوح الطلاق مبرما بين واقع الحال وبين الإيديولوجيات الغالبة أو السارية فيهــا، ربمـــا لأن هذه الأخيرة أخفقت في الاندراج في سياق التاريــــخ وفي ما قد يُعبر منحاه، شخوصا نحو الدولة-الأمة (أقله حتى اللحظة)، لأن الوظيفة تلك تولتها الدول والكيانات الناشئة في أعقاب الفترة الاستعمارية، فإذا تلك الإيديولوجيات، قومية كانت أم إسلامية، اعتراض بلا وظيفة، بذلك المعنى التاريخي المشار إليه.
لعل ذلك ما يجعلها تعجز عن الإجابة على السؤال الأساسي الذي يواجهها إلا بالاستنجاد بـ»بنظرية المؤامرة»، وهذه تؤدي بدورها إلى إبطال آليات التاريخ أو إلى إنكارها، والسؤال الكؤود الذي نعنيه هو: لماذا تبدي تلك الدول «الوطنية» والكيانات كل تلك القدرة على البقاء، فتستوي أفقا لا سبيل إلى تجاوزه، بل يؤدي تجاوزه أحيانا إلى التفكك وإلى الدمار، بالرغم مما توصم به عادة من اصطناع من هشاشة وبالرغم مما تُسام من رفض ومن انعدام شرعية؟وقد نجم عن ذلك العجز انسحاب عملي لتلك الإيديولوجيات من الواقع واغتراب حياله. نلوذ، سعيا إلى تقريب صورة ذلك الأمر، بتمييز كذلك الذي أقامه، في سياق آخر يتعلق بالديانات وفعلها، السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر، عندما لحظ فارقا بين ما أسماه «الزهد الخارج عن العالم»، رأى في بعض المعتقدات، لا سيما تلك الهندية، مثاله الأجلى، وبين «الزهد داخل العالم»، ذلك الذي رأى أن البروتسانتية الكالفينية تمكنت من اجتراحه، إقبالا على الثراء وصدا لملذاته، معتبرا ذلك من أوكد إسهاماتها في الحداثة وأبعدها شأوا. شيء من هذا القبيل وتمييز كذاك قد نتبيّهما في وظيفة الإيديولوجيا عندنا وعند سوانا، فإذا هي لدى هؤلاء فعل في العالم، وإذا هي لدينا تدير الظهر للعالم وتنكره وتتنكر له وتنسحب منه جاحدة كل شرعية على مكوناته، وإن فعلت ذلك بعنف يتجاوز بكثير ما من شأنه أن ينبو عن «زهد خارج العالم» ظل في العادة مسالما.
غير أن ذلك أفضى لدينا إلى ضرب من انفصام بالغ، بين واقع نعيشه، في كنف دول وكيانات ننتمي إليها، ساهمت في تشكيلنا، نحمل جوازاتها، نطبق قوانينها أو تسري علينا، تسهر على تعليمنا وتطبيبنا وما إلى ذلك من المهام التي تتولاها الدول، بل قد نتعصب لها في مواجهة «أشقاء» قد نستشعر حيالهم عنصرية، ولكننا نرفض تلك الدول-الكيانات أو نتحفظ عليها، باسم «أمة» أو «ثوابت أمة» نراها الوحيدة القمينة بالوجود والممتلكة لمقوماته ولشرعيته.
ربما أدى ذلك إلى حالة قصوى، هي المتمثلة في أن القول السياسي هو القول الإيديولوجي (على ما تفصح مثلا تدخلات المحلليل والمعلقين على شاشات الفضائيات) في حين أن الهيئات الفاعلة في الواقع والعاكسة له لا تملك، في تبرير ما تفعل أو ما لا تفعل، غير قول يظل دون السياسة بمعناها الأكمل، ليكون مجرد خطاب تسيير أو اضطرار أو واقعية بأكثر معانيها ابتذالا وامتثالا لإكراهات بعينها، لا تدعي من شرعية غير ذلك.وقد يكون مثال سورية نموذجيا في هذا الصدد. فهذا بلد يوحي سلوك قادته بأنهم آلوا إلى الإقرار بوطنية سورية، بما هي تطابق بين الكيان وبين السلطة القائمة عليه، فإذا هم يعلنون استعدادهم للتفاوض المباشر مع إسرائيل، مع أن أوضاع غزة على ما نعلم، وإذا هم، بالخصوص، يعترفون بلبنان ويقرون بوجوده كيانا قائم الذات، يتبادلون معه السفراء ويقبلون على ترسيم الحدود معه، متخلين بذلك عن أقنوم ليس فقط من «ثوابت» الإيديولوجيا القومية الحاكمة، ممثلة في البعث، بل من «الثوابت» السورية بإطلاق، منذ أن بُعثت تلك الدولة إلى الوجود، لكن ذلك التوجه نحو الوطنية-الكيانية السورية، لا يجد كلاما سياسيا يضطلع بصياغة مفرداته وبالتعبير عنه وبتبريره، لأن سطوة الإيديولوجيا، حيال تلك القضايا، لا تزال متمكنة، تحول دون ذلك وتستبعده، مع أن الأمر قد يتعلق بتحول أساسي بالغ الدلالة.
لكل ذلك، ربما أمكن القول إن الإيديولوجيا وفق طريقة إقبالنا عليها، كما سبقت الإشارة، تستوي العائق الأكبر، بيننا وبين ما يعتمل في أعماق مجتمعاتنا من تطورات، نفضل مواجهتها بالإنكار.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 28-12-2008