صالح بشير
هناك أوباما السياسي وهناك أوباما الرمز. أما الأول فقد يخيب آمالاً عُقدت عليه، بل هو على الأرجح، رجحاناً يداني اليقين، سيفعل، وأما الثاني، فقد أضحى ما أنجزه أو ما أُنجز بواسطته فعلاً ماضياً، متحققاً تامّاً، تحولاً تاريخي الكنه، عمقاً ومدى. الأول مجاله التوقّع، والمحاسبة والمساءلة، من منطلق يومي، دانٍ قريب، يتعلق بآني المصالح وبملحّ المشاغل، والثاني مضماره التاريخ الأوسع، تاريخ المدى الطويل، كذلك الذي تعنيه مدرسة «الحوليات» الفرنسية على سبيل المثال، وهذا لا يخضع لذات المنطق الذي يخضع له سابقه.
هما إذن مستويان متباينان تمام التباين أو يكادان، لا يجوز الخلط بينهما ولا يستقيم. أوباما الرئيس، سيكون رئيساً لكل الأميركيين، ولن يكون رئيس فئة بعينها، عرقية كتلك التي ينتمــي إليها، ما كان يمكنها بمفردها إيصاله إلى الموقع الذي بلغه، أو «إيديولوجية»، وفق المقاييس المعتادة. ولم يتفوه الرجل، طوال حملتـــه الانتخابية المديدة، بما يفيد شيئاً من هذا أو من ذاك، وهو لو فعل لما حظي بالفوز الذي نال، لعلمه بأن الانتخابات، في الديموقراطيات، مجترحـــة إجمـــاع أم معبرة عنه، لا تقـــوم إلا به، تعيد إرساءه ما إن يضع التنافس (وهذا كثيراً ما يتوسل مفردات عسكرية، من قبيل «المعركة» وما إليها) أوزاره، وهو (أي ذلك التنافس) يظل شاخصاً نحو ذلك الإجماع الذي لا يتأسس سلطان إلا عليه. لكل ذلك، ربما كان أوباما، على رغم فوزه الساحق المعلوم، أحوج رؤساء أميركا إلى مثل ذلك الإجماع، نراه يسعى إليه حتى بعد أن قال الناخب كلمته، يحيط نفسه بالكلنتونيين، استئناساً بلحظة نجاعة سابقة، وقد يحتفظ بروبيرت غيتس، وزيراً لديه للدفاع، كما سارع إلى ملاقاة خصمه في الاقتراع الأخير، جون ماكين، والتوافق معه على «العمل معاً»...
ثم أن الرئيس الأميركي المنتخب محكوم بطبيعة دولته، بموقعها وبمنزلتها بين الأمم. كانت الولايات المتحدة إمبراطورية، ممتدة الوجود والوظائف والتجليات قبل انتخاب أوباما وستظل كذلك بعد أن يتسنم ذروة الحكم على رأسها. والحال أن الإمبراطوريات إمبراطوريات فحسب، فلا هي بـ «الخيِّرة» ولا هي بـ «الشريرة». قد تتفاوت اعتدالاً أو تطرفاً في تعبيراتها عن سطوتها أو عما تحسبه اضطلاعاً بمسؤولياتٍ لها كونية، وهي لذلك قد تقدم على إصلاح النظام الدولي في بعض أوجهه واختلالاته ولكنها لن تقبل على تثويره، وهي التي تحتل منه موقع القلب، بل لا قبل لها بذلك على الأرجح، حتى إن أرادت.وفي ما يخص كل ذلك، أي كل ما هو سياسي مباشر إن جازت العبارة، لا يعدو أوباما أن يكون كسائر الرؤساء، ويتعين، تبعاً لذلك، أن يُقابل بما يتوجب من مساءلة ومن تحفظ، كذلك الجاري أصلاً والذي سيجري حتماً في المجتمع الديموقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس الجديد، بل ومن عدم استبشار بانتخابه ومن تبخيس لذلك الانتخاب وإنكار لأهميته، على ما فعل بعض المعلقين وعلى ما صرحت «فنانة عربية» تزعم لنفسها باعاً في «المقاومة» و «الممانعة» وما شاكلهما، لكن كل ذلك لا يلغي ولا يبطل ما حققه ذلك الانتخاب على الصعيد الرمزي، ولا ينال في شيء من الحماسة التي استُقبل بها، من قبل من تنبهوا إلى عناصر الجدة فيه، وطابعها المؤسس، من دون أن تعمى بصيرتهم عما عداه، فإذا هي حماسة متبصرة.
والحماسة متعددة المستويات، فهي لا تتوقف حصراً عند سابقة انتخاب أول رئيس أسود، متأت من عنصرٍ سيم استرقاقاً، ثم تمييزاً مديداً مجحفاً لا إنسانياً، وهو ما تناولته الأقلام وأسهبت في تناوله، بل تتعدى ذلك إلى أمري أساسي، هو الذي مفاده أن حملة أوباما، على فقرها البرنامجي، ثم انتخابه، أضفيا شرعية على خطاب «يساري» (بالمعنى الأوسع لكلمة «يسار»، أي غير المرتبط بإيديولوجيا بعينها) كان قد افتقدها حتى أدت إلى تلاشيه أو أنه لم يبق إلا على هيئة «مقولات» نال منها الفوات وما عادت قادرة على مخاطبة الواقع والإحاطة به. أنهت تلك الحملة وذلك الانتخاب استفراد الخطاب اليميني بالعالم، إيديولوجيا نيو-ليبرالية مغالية، استوت أفقاً وحيداً أوحد لا مخرج منه ولا مناص، أضحت تقول به حتى أحزاب «اشتراكية ديموقراطية» كانت تتصور أنها اهتدت إلى إكسير المواءمة بين متطلبات الحرية ومقتضيات العدالة الاجتماعية تتولاها «دولة الرعاية»، أو إيديولوجيات أخرى، تعارض من منطلق الهوية، تمعن في الانغلاق وفي التزمت، تمثل بعض أجلاها، وأفدحها، في الحركات المتعصبة التي قامت، واستحوذت على المبادرة، في العالم الإسلامي.
بهذا المعنى، تكون الانتخابات الأميركية الأخيرة، قد أعادت إلى العالم تعدداً، في الرأي وفي الخيارات، كان قد افتقده وأضحى منه محروماً، وأعاد إلى السجال السياسي، وإلى الشأن العام على نحو أعم، المحلي والكوني، مضامين وجوهراً، بعد أن كانا مجالاً لمجرد تراشق بـ «الصور»، وأحل النسبية محل الإطلاق.للمرة الأولى، منذ أن استتب الأمر للخطاب النيو - ليبرالي، وهذا قد لا نبالغ إن قلنا في شأنه أنه كان منتج بضائع (بما فيها البضاعة السياسية) أكثر مما كان منتج أفكار، أضحى الخطاب السياسي متنوعاً، لا يتوقف عند تبرير ما هو قائم بل يسعى إلى تجاوزه، ويرتفع بالديموقراطية، من وظائفها الإجرائية البحت، وسيلة لتداول الأطقم الحاكمة على السلطة، إلى أداة لاجتراح التحولات المجتمعية الكبرى، أي فرصة للاختيار، متاحاً للإنسان المواطن، كائناً حراً، تُقاس حريته بتلك القدرة على الاختيار، كما قدم الدليل على أن فوق التشرذم الفئوي، يعصف بالمجتمعات، وحدة يمكن بلوغها.والأمر هذا بالغ الأهمية، بصرف النظر عن تفاصيل السياسة التي سيسلكها أوباما، بصرف النظر عن تنصيبه صديقاً له إسرائيلياً كبيراً لموظفي البيت الأبيض، وبصرف النظر عن كون وصوله إلى البيت الأبيض لن يفضي حتماً وفي المستقبل المنظور، إلى تغيير موقع الفئة العرقية التي ينتمي إليها في السلم الاجتماعي...
إذ من المفروغ منه، أن أوباما القطاعي، المتعلق بمختلف أوجه مزاولته لمهامه رئيساً، لن يكون بحال من الأحوال في مستوى أوباما الرمز.
نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 23-11-2008
هناك أوباما السياسي وهناك أوباما الرمز. أما الأول فقد يخيب آمالاً عُقدت عليه، بل هو على الأرجح، رجحاناً يداني اليقين، سيفعل، وأما الثاني، فقد أضحى ما أنجزه أو ما أُنجز بواسطته فعلاً ماضياً، متحققاً تامّاً، تحولاً تاريخي الكنه، عمقاً ومدى. الأول مجاله التوقّع، والمحاسبة والمساءلة، من منطلق يومي، دانٍ قريب، يتعلق بآني المصالح وبملحّ المشاغل، والثاني مضماره التاريخ الأوسع، تاريخ المدى الطويل، كذلك الذي تعنيه مدرسة «الحوليات» الفرنسية على سبيل المثال، وهذا لا يخضع لذات المنطق الذي يخضع له سابقه.
هما إذن مستويان متباينان تمام التباين أو يكادان، لا يجوز الخلط بينهما ولا يستقيم. أوباما الرئيس، سيكون رئيساً لكل الأميركيين، ولن يكون رئيس فئة بعينها، عرقية كتلك التي ينتمــي إليها، ما كان يمكنها بمفردها إيصاله إلى الموقع الذي بلغه، أو «إيديولوجية»، وفق المقاييس المعتادة. ولم يتفوه الرجل، طوال حملتـــه الانتخابية المديدة، بما يفيد شيئاً من هذا أو من ذاك، وهو لو فعل لما حظي بالفوز الذي نال، لعلمه بأن الانتخابات، في الديموقراطيات، مجترحـــة إجمـــاع أم معبرة عنه، لا تقـــوم إلا به، تعيد إرساءه ما إن يضع التنافس (وهذا كثيراً ما يتوسل مفردات عسكرية، من قبيل «المعركة» وما إليها) أوزاره، وهو (أي ذلك التنافس) يظل شاخصاً نحو ذلك الإجماع الذي لا يتأسس سلطان إلا عليه. لكل ذلك، ربما كان أوباما، على رغم فوزه الساحق المعلوم، أحوج رؤساء أميركا إلى مثل ذلك الإجماع، نراه يسعى إليه حتى بعد أن قال الناخب كلمته، يحيط نفسه بالكلنتونيين، استئناساً بلحظة نجاعة سابقة، وقد يحتفظ بروبيرت غيتس، وزيراً لديه للدفاع، كما سارع إلى ملاقاة خصمه في الاقتراع الأخير، جون ماكين، والتوافق معه على «العمل معاً»...
ثم أن الرئيس الأميركي المنتخب محكوم بطبيعة دولته، بموقعها وبمنزلتها بين الأمم. كانت الولايات المتحدة إمبراطورية، ممتدة الوجود والوظائف والتجليات قبل انتخاب أوباما وستظل كذلك بعد أن يتسنم ذروة الحكم على رأسها. والحال أن الإمبراطوريات إمبراطوريات فحسب، فلا هي بـ «الخيِّرة» ولا هي بـ «الشريرة». قد تتفاوت اعتدالاً أو تطرفاً في تعبيراتها عن سطوتها أو عما تحسبه اضطلاعاً بمسؤولياتٍ لها كونية، وهي لذلك قد تقدم على إصلاح النظام الدولي في بعض أوجهه واختلالاته ولكنها لن تقبل على تثويره، وهي التي تحتل منه موقع القلب، بل لا قبل لها بذلك على الأرجح، حتى إن أرادت.وفي ما يخص كل ذلك، أي كل ما هو سياسي مباشر إن جازت العبارة، لا يعدو أوباما أن يكون كسائر الرؤساء، ويتعين، تبعاً لذلك، أن يُقابل بما يتوجب من مساءلة ومن تحفظ، كذلك الجاري أصلاً والذي سيجري حتماً في المجتمع الديموقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس الجديد، بل ومن عدم استبشار بانتخابه ومن تبخيس لذلك الانتخاب وإنكار لأهميته، على ما فعل بعض المعلقين وعلى ما صرحت «فنانة عربية» تزعم لنفسها باعاً في «المقاومة» و «الممانعة» وما شاكلهما، لكن كل ذلك لا يلغي ولا يبطل ما حققه ذلك الانتخاب على الصعيد الرمزي، ولا ينال في شيء من الحماسة التي استُقبل بها، من قبل من تنبهوا إلى عناصر الجدة فيه، وطابعها المؤسس، من دون أن تعمى بصيرتهم عما عداه، فإذا هي حماسة متبصرة.
والحماسة متعددة المستويات، فهي لا تتوقف حصراً عند سابقة انتخاب أول رئيس أسود، متأت من عنصرٍ سيم استرقاقاً، ثم تمييزاً مديداً مجحفاً لا إنسانياً، وهو ما تناولته الأقلام وأسهبت في تناوله، بل تتعدى ذلك إلى أمري أساسي، هو الذي مفاده أن حملة أوباما، على فقرها البرنامجي، ثم انتخابه، أضفيا شرعية على خطاب «يساري» (بالمعنى الأوسع لكلمة «يسار»، أي غير المرتبط بإيديولوجيا بعينها) كان قد افتقدها حتى أدت إلى تلاشيه أو أنه لم يبق إلا على هيئة «مقولات» نال منها الفوات وما عادت قادرة على مخاطبة الواقع والإحاطة به. أنهت تلك الحملة وذلك الانتخاب استفراد الخطاب اليميني بالعالم، إيديولوجيا نيو-ليبرالية مغالية، استوت أفقاً وحيداً أوحد لا مخرج منه ولا مناص، أضحت تقول به حتى أحزاب «اشتراكية ديموقراطية» كانت تتصور أنها اهتدت إلى إكسير المواءمة بين متطلبات الحرية ومقتضيات العدالة الاجتماعية تتولاها «دولة الرعاية»، أو إيديولوجيات أخرى، تعارض من منطلق الهوية، تمعن في الانغلاق وفي التزمت، تمثل بعض أجلاها، وأفدحها، في الحركات المتعصبة التي قامت، واستحوذت على المبادرة، في العالم الإسلامي.
بهذا المعنى، تكون الانتخابات الأميركية الأخيرة، قد أعادت إلى العالم تعدداً، في الرأي وفي الخيارات، كان قد افتقده وأضحى منه محروماً، وأعاد إلى السجال السياسي، وإلى الشأن العام على نحو أعم، المحلي والكوني، مضامين وجوهراً، بعد أن كانا مجالاً لمجرد تراشق بـ «الصور»، وأحل النسبية محل الإطلاق.للمرة الأولى، منذ أن استتب الأمر للخطاب النيو - ليبرالي، وهذا قد لا نبالغ إن قلنا في شأنه أنه كان منتج بضائع (بما فيها البضاعة السياسية) أكثر مما كان منتج أفكار، أضحى الخطاب السياسي متنوعاً، لا يتوقف عند تبرير ما هو قائم بل يسعى إلى تجاوزه، ويرتفع بالديموقراطية، من وظائفها الإجرائية البحت، وسيلة لتداول الأطقم الحاكمة على السلطة، إلى أداة لاجتراح التحولات المجتمعية الكبرى، أي فرصة للاختيار، متاحاً للإنسان المواطن، كائناً حراً، تُقاس حريته بتلك القدرة على الاختيار، كما قدم الدليل على أن فوق التشرذم الفئوي، يعصف بالمجتمعات، وحدة يمكن بلوغها.والأمر هذا بالغ الأهمية، بصرف النظر عن تفاصيل السياسة التي سيسلكها أوباما، بصرف النظر عن تنصيبه صديقاً له إسرائيلياً كبيراً لموظفي البيت الأبيض، وبصرف النظر عن كون وصوله إلى البيت الأبيض لن يفضي حتماً وفي المستقبل المنظور، إلى تغيير موقع الفئة العرقية التي ينتمي إليها في السلم الاجتماعي...
إذ من المفروغ منه، أن أوباما القطاعي، المتعلق بمختلف أوجه مزاولته لمهامه رئيساً، لن يكون بحال من الأحوال في مستوى أوباما الرمز.
نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 23-11-2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق