الأحد، 4 يناير 2009

المسؤولية في عيون المعارضة

صالح بشير

لا تقيم معارضات المنطقة، في الغالب الأعم، لمسألة «السيادة» كبير اعتبار. لها في ذلك على الأرجح اعتباران، واحد آني، هو المتمثل في تهربها مما قد تراه ابتزازا، تسلطه أنظمة تحسب نفسها مناط السيادة الحصري وتتماهى معها، فتميل إلى مساواة كل فعل اعتراض عليها مع لا ما يقل عن الخيانة الوطنية أو ما يندرج في عدادها، والآخر، وهو وثيق الصلة بالأول، تكويني تأسيسي، يستند إلى رؤية تفيد بأن الكيانات «الوطنية» عديمة الشرعية، بمعيار الانتماء إلى «الأمة» أو إلى الوحدة العضوية الأصغر، وأن صفتها تلك تنسحب استطرادا على الدول القائمة عليها.
يتجلى مثل ذلك الموقف في مثالين قد يكونان أقصيين، نهض بأحدهما حزب «الله اللبناني»، لا سيما في صائفة 2006، عندما استدرج حربا خارجية على البلد، دون أن يستشير أحدا من مكوناته، ناهيك عما يُفترض أنه سلطاته النافذة والمحرزة على الاعتراف الدولي بصفتها تلك، وتولت الثاني المعارضة العراقية لصدام حسين، تلك التي حثّ بعضها على الغزو وأبدى تواطؤاً معه، نشيطاً أو سلبياً اكتفى بعدم الاعتراض عليه وبالنظر إلى الناحية الثانية، فصير في الحالتين إلى التضحية بـ«السيادة» من أجل إسقاط نظام غاشم مقيت، مما يفصح عن الكثير حول الأولويات وكيفية ترتيبها. وبين الموقفين ذينك تنويعات كثيرة من قبيلهما وإن كانت أقل دراماتيكية، استدراجا لتدخل أو شكوى، مزرية في حالات كثيرة، تُرفع إلى هيئات خارجية، ليست كلها بالمراتب الدولية أو القيمية التي يُتوسم فيها الحياد، بل هي دول ومصادر نفوذ ليست براء من فئوي المصالح ومما كان منها أنانيا.
لكل ذلك، فإن تهم «الاستقواء بالأجنبي»، تطلقها الأنظمة في وجه مناوئيها، ليست بالضرورة مردودة ولا هي عديمة القيمة، وإن كانت أحيانا من كلام الحق الذي يراد به باطل، بل هي قد لا تخلو من وجاهة، فسواء استحقت تلك الأنظمة أم لم تستحق، فهي عمليا مناط «السيادة» أو هكذا تلوح في نظر العالم وهيئاته الناظمة التي تتعامل معها على هذا الأساس، أقله نظريا ووفق ما يقتضيه القانون الدولي. صحيح أن الأنظمة تلك قد تستخدم أحيانا مبدأ «السيادة» ذاك لمصلحتها، وأنها قد تخلط أحيانا بين ائتمانها على تلك الصلاحية وبين امتلاكها لها، ومن هنا مغزى «الحق في التدخل» الذي استُنهض في تسعينيات القرن الماضي ضد طغاة، شأن الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، نكلوا في حق شعوبهم، ولكن ما لاشك فيه من وجه آخر أن مبدأ «السيادة» ذلك قائم، لبنة أساسية يقوم عليها كل اجتماع سياسي وكل معمار عالمي، أقله حتى إشعار آخر، كأن تتحقق، على سبيل المثال، نبوءة كانط حول «السلام الأبدي».
وذلك، بعد أن يتعين القبول والإقرار به، في معرض القبول بالأوطان والإقرار بها، وهذه، على ما دلت التجربة ولا تنفك تدل، لا مجال لسياسة من خارجها أو من دونها، لسبب بسيط هو أن كل سياسة عدا تلك غير عملية، وغير مجدية تاليا أو عكسية المفعول، فهي إما نكوص عن هذه الأخيرة إلى ما دون الوطني، وإما تجاوز لها نحو التهويمات الإيديولوجية.
عاملان على الأقل يدعوان إلى ذينك الإقرار والقبول، أولهما أن مبدأ «السيادة» ذاك يضطلع بوظيفة تأسيسية، فهو الذي يرسم إطارا، مفهوميا وترابيا، تجري السياسة في بعدها الداخلي في كنفه، وفي بعدها الخارجي بالاستناد إليه، وهو لذلك يمثل المعطى القبْلي الذي يتعين أن يبقى بمنأى عن الصراع السياسي بين السلطة ومعارضيها، وهو من وجه آخر، وذلك هو العامل الثاني، لا ينفك يتأكد بوصفه الرهان الأساسي للحياة الدولية، إذ لم تعد سيادة الأوطان والدول تحصيل حاصل، رديفاً لنيل الاستقلال كما كانت الحال في موفّى الفترة الاستعمارية، بل أضحت صلاحية قابلة للانتقاص أو للإلغاء، باسم متطلبات العولمة أو باسم قيم تزعم كونية أو باسم نفوذ يعبر عن نفسه سافرا بطبيعته تلك، على ما حصل طوال فترة الرئيس الأميركي الآيل إلى انصراف جورج بوش...
قصارى القول من كل ما سبق وجود مبادئ بعينها، وعلى رأسها مبدأ «السيادة» والحرص عليه، هي مما يمنح العمل السياسي شرعيته، سواء تمثل في السلطة أم في المعارضة، وأن هذه الأخيرة التي لا تملك غالبا من المسوغات غير زعمها التصدي لوظيفتها تلك، لا يمكنها أن تؤسس فعلها ذاك إلا على أساس الأخذ بذلك المبدأ، يسبق لديها السلطة ويجيز المطالبة بهذه الأخيرة، أي يمنحها صفة الطرف السياسي، مسبّقا مبدأ «المسؤولية» على مبدأ السلطة، اختبارا قد يفضي إلى هذه الأخيرة، من باب المشاركة أو السعي في طلبها انفراداً.

نُشر في يومية "الجريدة" الكويتية"، بتاريخ 30-12-2008

الإيديولوجيا، كما نفهمها، لا تزال العائق الأكبر بيننا وبين الواقع

صالح بشير

لا غرو في أن الإيديولوجيا مفارقة دوما مجافية، وإلا لو انطبق خطابها على واقع بعينه وعلى وقائع لأضحت علما متعلقا بهذه وبذاك، وتلك مكانة لم تبلغها وإن ادعتها لنفسها في بعض الأحيان. غير أنه يمكن الزعم بأنه لم يقيض للإديولوجيا أن بلغت ذلك الشأو المفارق والمجافي كما هي الحال في هذه المنطقة.
ففي كل مقام آخر وفي كل تجربة أخرى، تتطابق الإيديولوجيا في مكان ما أو على صعيد ما مع الواقع، وذلك ما يجعلها قادرة على الفعل فيه، أي أنها تقيم مع ذلك الواقع آصرة فعلية لا مجرد وشيجة موهومة أو افتراضية. خذ مثلا الإيديولوجيا القومية كما عرفتها أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، بما في ذلك مآلاتها القصوى ممثلة في النازية وفي الفاشية، حيث ما كان يمكن للإيديولوجيا تلك أن تقوم لو لم يُصر إلى تجاوز النموذج الإمبراطوري السابق وإلى الإقرار بفواته، أي لو لم تستو الواقعة القومية، بالمعنى «الوطني»، لا ذلك العابر للأوطان على ما هي في قاموس هذه المنطقة، أفق تطور تاريخي لا مناص منه ولا محيد.
وقس على ذلك الاشتراكية التي لم تتأكد إلا نتيجة تطور أدت إليه الثورة الرأسمالية، فجاءت نقيضا لها يتمثل شرطُ وجودها في أنها مستخلصة من تلك الرأسمالية، طبقات اجتماعية وثقافة اعتراض ما كان يمكنها إلا أن تنشأ عنها وفي كنفها. بل ربما جاز القول إن تجربة كتلك السوفياتية ما كان يمكنها الحفاظ على إرث روسيا، إمبراطورية ما فوق قومية واستبدادا مقيما وحسا توسعيا، إلا بأخذ الواقعة الرأسمالية ونظامها ودولتها بعين الاعتبار، وافتعال نفسها تجاوزا لتلك الواقعة يستأنفها ويذهب بمنطقها إلى مداه الأبعد، فاتخذت من الإيديولوجيا الشيوعية أداة لذلك.
كل ذلك للقول بأن الإيديولوجيا، وإن سعت إلى التمويه، تقيم آصرة مع الواقع، جزئية أو مداوِرة، فلا تنبذه أو لا تفعل ذلك إلا من باب تحقيقه، استباقا أو إنجازا، بصورة من الصور وبشكل من الأشكال، وقد يصحّ ذلك على كل الحالات المشابهة إلا على حال هذه المنطقة، حيث يلوح الطلاق مبرما بين واقع الحال وبين الإيديولوجيات الغالبة أو السارية فيهــا، ربمـــا لأن هذه الأخيرة أخفقت في الاندراج في سياق التاريــــخ وفي ما قد يُعبر منحاه، شخوصا نحو الدولة-الأمة (أقله حتى اللحظة)، لأن الوظيفة تلك تولتها الدول والكيانات الناشئة في أعقاب الفترة الاستعمارية، فإذا تلك الإيديولوجيات، قومية كانت أم إسلامية، اعتراض بلا وظيفة، بذلك المعنى التاريخي المشار إليه.
لعل ذلك ما يجعلها تعجز عن الإجابة على السؤال الأساسي الذي يواجهها إلا بالاستنجاد بـ»بنظرية المؤامرة»، وهذه تؤدي بدورها إلى إبطال آليات التاريخ أو إلى إنكارها، والسؤال الكؤود الذي نعنيه هو: لماذا تبدي تلك الدول «الوطنية» والكيانات كل تلك القدرة على البقاء، فتستوي أفقا لا سبيل إلى تجاوزه، بل يؤدي تجاوزه أحيانا إلى التفكك وإلى الدمار، بالرغم مما توصم به عادة من اصطناع من هشاشة وبالرغم مما تُسام من رفض ومن انعدام شرعية؟وقد نجم عن ذلك العجز انسحاب عملي لتلك الإيديولوجيات من الواقع واغتراب حياله. نلوذ، سعيا إلى تقريب صورة ذلك الأمر، بتمييز كذلك الذي أقامه، في سياق آخر يتعلق بالديانات وفعلها، السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر، عندما لحظ فارقا بين ما أسماه «الزهد الخارج عن العالم»، رأى في بعض المعتقدات، لا سيما تلك الهندية، مثاله الأجلى، وبين «الزهد داخل العالم»، ذلك الذي رأى أن البروتسانتية الكالفينية تمكنت من اجتراحه، إقبالا على الثراء وصدا لملذاته، معتبرا ذلك من أوكد إسهاماتها في الحداثة وأبعدها شأوا. شيء من هذا القبيل وتمييز كذاك قد نتبيّهما في وظيفة الإيديولوجيا عندنا وعند سوانا، فإذا هي لدى هؤلاء فعل في العالم، وإذا هي لدينا تدير الظهر للعالم وتنكره وتتنكر له وتنسحب منه جاحدة كل شرعية على مكوناته، وإن فعلت ذلك بعنف يتجاوز بكثير ما من شأنه أن ينبو عن «زهد خارج العالم» ظل في العادة مسالما.
غير أن ذلك أفضى لدينا إلى ضرب من انفصام بالغ، بين واقع نعيشه، في كنف دول وكيانات ننتمي إليها، ساهمت في تشكيلنا، نحمل جوازاتها، نطبق قوانينها أو تسري علينا، تسهر على تعليمنا وتطبيبنا وما إلى ذلك من المهام التي تتولاها الدول، بل قد نتعصب لها في مواجهة «أشقاء» قد نستشعر حيالهم عنصرية، ولكننا نرفض تلك الدول-الكيانات أو نتحفظ عليها، باسم «أمة» أو «ثوابت أمة» نراها الوحيدة القمينة بالوجود والممتلكة لمقوماته ولشرعيته.
ربما أدى ذلك إلى حالة قصوى، هي المتمثلة في أن القول السياسي هو القول الإيديولوجي (على ما تفصح مثلا تدخلات المحلليل والمعلقين على شاشات الفضائيات) في حين أن الهيئات الفاعلة في الواقع والعاكسة له لا تملك، في تبرير ما تفعل أو ما لا تفعل، غير قول يظل دون السياسة بمعناها الأكمل، ليكون مجرد خطاب تسيير أو اضطرار أو واقعية بأكثر معانيها ابتذالا وامتثالا لإكراهات بعينها، لا تدعي من شرعية غير ذلك.وقد يكون مثال سورية نموذجيا في هذا الصدد. فهذا بلد يوحي سلوك قادته بأنهم آلوا إلى الإقرار بوطنية سورية، بما هي تطابق بين الكيان وبين السلطة القائمة عليه، فإذا هم يعلنون استعدادهم للتفاوض المباشر مع إسرائيل، مع أن أوضاع غزة على ما نعلم، وإذا هم، بالخصوص، يعترفون بلبنان ويقرون بوجوده كيانا قائم الذات، يتبادلون معه السفراء ويقبلون على ترسيم الحدود معه، متخلين بذلك عن أقنوم ليس فقط من «ثوابت» الإيديولوجيا القومية الحاكمة، ممثلة في البعث، بل من «الثوابت» السورية بإطلاق، منذ أن بُعثت تلك الدولة إلى الوجود، لكن ذلك التوجه نحو الوطنية-الكيانية السورية، لا يجد كلاما سياسيا يضطلع بصياغة مفرداته وبالتعبير عنه وبتبريره، لأن سطوة الإيديولوجيا، حيال تلك القضايا، لا تزال متمكنة، تحول دون ذلك وتستبعده، مع أن الأمر قد يتعلق بتحول أساسي بالغ الدلالة.
لكل ذلك، ربما أمكن القول إن الإيديولوجيا وفق طريقة إقبالنا عليها، كما سبقت الإشارة، تستوي العائق الأكبر، بيننا وبين ما يعتمل في أعماق مجتمعاتنا من تطورات، نفضل مواجهتها بالإنكار.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 28-12-2008

السبت، 20 ديسمبر 2008

الاستبداد ... ومصادر الشرعية

صالح بشير

يبدو أن هناك إقبالا، متفاوت الدرجة متباين الإحكام، لا ينتسب إلى منطقة دون سواها، على ما يمكن تسميته بالنصّية الدستورية، لم يكن في ما مضى، خصوصا في أعقاب الفترة الاستعمارية وبلوغ «بلدان الجنوب» الاستقلال ومسارعتها إلى إنشاء الدول-الأمم، بالهاجس الأول لدى تلك النخب الجديدة.
فمن روسيا التي تقيد رئيسها السابق، فلاديمير بوتين بأحكام الدستور الذي لا يخوله أكثر من ولايتين متعاقبتين، فاكتفى برئاسة الحكومة مع أنه لا يساور أحدا شك، لا في روسيا ولا في خارجها، بأنه هو المزاول الفعلي للسلطة العليا، عبر رئيس جديد، ديمتري مديفيديف، هو الذي اختاره ورشحه وبوأه، يتولى مقاليد الأمور من خلاله، إلى جزائر عبد العزيز بوتفليقة التي عدلت دستورها أخيرا، لكي تمكن رئيسها من ولاية ثالثة، إلى ظواهر متعددة، من هذا القبيل أو من ذاك، جدت في السنوات الأخيرة في حالات وفي أماكن متعددة.
لسنا نريد تناول هذا الأمر من باب الإدانة، فذلك ما قد يكون في نهاية مطافه سهلا، لا يكلف صاحبه في الغالب، لا سيما إن لاذ بتعميم يتجنب التخصيص، سوى الحبر الذي كُتب به، هذا ناهيك عن أن المعترضين في ذلك الصدد، لا ينذرن، في شأن إعادة إنتاج الاستبداد، إلا بما هو أنكى أو أنهم يعجزون عن استدراج البديل عما يفضحون، وعن أن حجة الأنظمة، أو بعضها على الأقل، ورجالاتها، في حالات وإن لم يكن في كلها، من أن الظروف قد لا تكون ناضجة للديمقراطية أو للذهاب في إرسائها أبعد (لمن يعتقد بأنه قد حقق في سبيل إرسائها نصيبا) ليست مردودة بالكامل ودون مساءلة، تشوبها الشبهة لمجرد كونها صدرت عمّن صدرت.
كل ذلك للقول إن تلك النصيّة الدستورية ربما تطلبت توقفا عندها، وإن مع الإقرار بكل حدودها، علما بأن الاقتصار عليها في هذا المجال ليس استنقاصا لسواها من العوامل واستخفافا بها. صحيح أن تلك النصيّة الدستورية تشوبها استدراكات كثيرة، أولها أن التقيد بالنصوص الدستورية كثيرا ما يتحقق، في مثل تلك الحالات، من خلال انتهاكها، بواسطة ما يُعرف بإجراء تعديلات «حسب المقاس»، وأن في ذلك ما من شأنه أن يضفي على ذلك الأمر نسبيةً لا تُجحد، ولكن يبقى أن ذلك الإصرار على نصيّة الدستور، حتى ضمن تلك الحدود والمحددات، ذو دلالة يتعين أن تُستنطقُ، أقلّه كفرضية بحث.
أما الدلالة تلك فهي قد تكون المتمثلة في أن الاستبداد أو التسلط أو الانفراد وما إليها من أشكال الحكم، كانت «تتمتع» في ما مضى بشرعية ما عادت الآن من نصيبها، كانت تستقيها من إيديولوجيا ثورية تأخذ بها، أو من سيرة القائد المؤسس والجيل الذي اجترح الاستقلال وتولى إنشاء الدولة. وكان العاملان ذانك، كلا منهما على حدة وخصوصا إن تواشَجا، كفيلين بتأسيس أهلية للاضطلاع بالسلطة، «طبيعية» أو تكاد، تنأى بصاحبها عن كل مساءلة، تصدر عن مرتبة متعالية (الإيديولوجيا أو الدور التاريخي التأسيسي) ليست، بصفتها تلك، في حاجة إلى مصادقة تأتيها من تحت، إلا على سبيل التصفيق والمباركة. وهكذا، لم يجد جيل الآباء المؤسسين، من قادة استقلال ومن أصحاب الوعود الإيديولوجية الكبرى، بالغ المشقة في إرساء سلطانهم ولا اكترثوا يوما بالدساتير ولا اهتموا بمقتضيات بنودها إلا لماما.
لم يبق لمثل ذينك العاملين من فعل، إما بسبب تغير الظروف وإما لسبب جيلي أو بيولوجي، وأضحى ورثة ذلك الجيل المؤسس في غير وارد الاكتفاء بمرتبة متعالية يصدرون عنها محض إملاء، بل باتوا ينشدون مصادقة المحكومين، يُستنهضون، أو يصار إلى استنهاضهم بواسطة أحزاب، حاكمة أو موالية للحاكم، كثيرا ما تكون، وتلك حقيقة موضوعية، الوحيدة الحائزة على صفة «الجماهيرية»، تستبق مطالب التمديد وترفعها أو تتظاهر بذلك، ثم تدرجها في الدستور بندا مُلزما، صدر عن المراتب الدنيا أو اكتسب تلك الصفة. لنترك إذن جانبا الخوض في استبدادية مثل تلك الأنظمة من عدمها، خصوصا أن الخوض ذاك غالبا ما يكون مُغرضا من الجانبين، لنتوقف عند ذلك التغير في مصادر الشرعية والذي قد يكون التحول الأهم والأبعد غورا، وإن لم يفض، أو لم يفض بعد، إلى الديمقراطية، أو حتى إلى مجرد الاقتراب منها، لأنه يلجأ في حالات كثيرة، وليس في كلها (وذلك ما يتطلب تنويها)، إلى الاصطناع أو إلى الافتعال.
وهكذا، فإن التحول ذاك، بالرغم مما قد يرى من هم في عجلة من أمرهم دون امتلاك أسباب الخلوص إلى إلديمقراطية، قد يكون من أوكد الطرق المفضية إلى هذه الأخيرة في يوم من الأيام، أقلّه لأنه أعاد السلطة، من حيث لا يدري ربما، إلى ملكوت الأرض والسياسة، فإذا هي صراع لا أكثر، قد يكون مفتوحا بالرغم مما قد يوحي ظاهر الأمور.

نشر في يومية "الجريدة" الكويتية بتاريخ 16-12-2008

لا تستقيم إطلاقية حقوق الإنسان من دون إطلاقية الإنسان نفسه

صالح بشير

قد لا تُدرك فكرة، مبدأ، دعوة إلا بواسطة تحديدها سلبا، من خلال ما تهمله، ما تستبعده، ما تستثنيه، عن وعي أو عن غير إرادة. فهي تعين مجال صلاحيتها، وليس لها إلا أن تفعل، أقله لتبيان ما يميزها، للتعريف بما يصنع فرادتها أو ما تحسبه كذلك. ما من فكرة، ما من مبدأ، ما من مبدأ، إلا وتطرح نفسها إيجابيا، في ما يبدو مسعى يتخطى تأكيد الذات إلى تحصينها، إذ يصعب، إن لم يتعذر، دحضها أو مجرد مماحكتها، في ما تأنسه في نفسها إيجابا، في ما قامت من أجل إقراره.
خذ مثلا فكرة حقوق الإنسان أو مبدئها، ذانك اللذان يُحتفى هذه الأيام بالذكرى الستين لإصدار إعلانهما العالمي عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، لنرى أن الأمر الآنف الذكر قد يصح في شأنها كما لا يصح في شأن سواها. إذ من عساه، في أيامنا، يجابه تلك الحقوق ويعاندها؟ من فعل وجد نفسه في موقع دفاعي لا يُحسد عليه أو اضطر إلى مماشاة منطق تلك الحقوق الإنسانية (أو قد يُقال «ثقافتها» على ما يقتضي اللسان الدارج في زماننا) بأن يطلق صفة الحقوق، محاولا بذلك تسويغه، على ما هو ليس في عدادها متنكرٌ لها، شأن ارتداء «البرقع» أو ما شاكله من أمارات الإجحاف أو التمييز.ذلك أن الحقوق تلك، والمبدأ القائل بها والمقرّ لها (مع أن الإقرار ذاك فيه نظر)، قد فرضت نفسها وحققت «هيْمنة»، ما جعل حتى أعتى عتاة الاستبداد يتمسحون بها، إذ أضحت عنوان الانخراط في الحداثة، أو على الأقل، في المعاصرة، مع أنها قديمة قدم العالم، على ما ذهب ويذهب بعض المفكرين والباحثين، مثل الألماني ماكس فيبر الذي أعاد بعض أبوتها إلى القديس بولس، أي إلى فترة تأسيس المسيحية، عندما لام هذا الأخير، بشيء من قسوة تأخذ في الحسبان كرامة الإنسان قبل أي اعتبار أو انتماء، نظيره القديس بطرس الذي كان على مائدته يؤاكل جمعا من «الأغيار» حتى إذا ما وفد لفيف من اليهود تحرج وانسحب من صحبة «غير المختونين» أولئك.
قد يكون الجديد الذي جاءت به العصور الحديثة أنها قامت بمأسسة تلك الحقوق، إن سلمنا بقدمها، فاتخذتها أساسا لإنشاء الدول وإحداث الأنصبة الاجتماعية وسن القوانين بل وحاولت إرساءها تشريعا دوليا، وأنها إذ فعلت ذلك، قد نجحت في فرضها «باراديغم»، يأخذ به الجميع، بما في ذلك أعداؤه الحقيقيون أو المفترضون، وإن من باب محاجّته على أرضيته أو من باب مداورته.
ومع ذلك، فإن المبدأ ذاك في أزمة. صحيح أن حال حقوق الإنسان الآن أفضل، وبما لا يقاس، مما كانت عليه في أربعينات القرن الماضي، في موفى الحرب العالمية الثانية، أقله لأنها آلت إلى قدر من كونية عمليّة ولم تعد شأنا شماليا غربيا خالصا، لا يمتد حتى إلى شرق القارة القديمة وجنوبها، ناهيك عن العالم، ولكن ما لا ريب فيه، من وجه آخر، أن الحقوق تلك لا تزال تُنتهك على نطاق واسع، حتى داخل الديموقراطيات ذاتها أو على يديها في أصقاع كثيرة.قد لا يعود ذلك فقط إلى مجرد صعوبة الإرساء وعسر الإنجاز، أو إلى مقتضيات التسييس، تفضي إلى توسل تلك المبادئ في سبيل ما لم توجد من أجله، جزءا من سياسة قوة وسعيا إلى فرض غلبة، ولكن الأزمة تلك ربما عادت إلى لبس يقوم عليه مبدأ حقوق الإنسان، في صيغته الحديثة، من أساسه. وقد لا يتيسر النفاذ إلى ذلك اللبس إلا بالعودة إلى مساءلة ذلك المبدأ في ما يحدده سلبا، كما سبقت الإشارة وإن جازت العبارة، لا في ما يقدّم به نفسه إيجابا.
من زاوية النظــر هــــذه، ربمـــا أمكن القـــول إن كل مبدأ، مهما بلغ من الشمول، إنما يميّز ويطرح ويستبعد، يعيّن من هو جدير بالانتماء إليه ومن ليس بذلك قمينا. وإذا ما كان الأمر هذا شائعا، فهو قد يكون في شأن حقوق الإنسان أبعد مدى وأنكى. إذ ما مصير أولئك الذين لا يندرجون في إطار ذلك المبدأ الأقصى، مدى وكونية واستغراقا مُفترضا للإنسان كماهية، أي من لا يندرجون في إطار ذلك التطابق، الذي يرسيه ذلك المبدأ بين الإنسانية وحقوق الإنسان؟ هل يُصار، بفعل عوامل تبعدهم عــــن تلك الحقوق، حقيقة أم توهما، فعلا أو افتراضا، لثقافات أو أيديولوجيات يدينون بها تُعتبر نقيضا أو لمجرد عدم الاكتراث بإنسانيتهم، إلى استبعادهم من الإنسانية جراء استبعادهم من تلك الحقوق؟
لا ينبو مثل ذلك السؤال عن تهويم خيال لا أكثر، إذ أن في مجريات أمور هذا العالم ما يؤيده وما أيده مرارا. ولعل في معتقل غوانتانامو ما يقدم أجلى الأمثلة على ذلك «اللبس» (حتى لا نقول أكثر) الآنف الذكر، إذ أدى ذلك العداء للديموقراطية وتاليا لحقوق الإنسان، الذي يُنسب إلى نزلاء ذلك المعتقل، إلى وضعهم خارج الإنسانية وخارج كل قانون، على ما هو جليّ معلوم لا فائدة من العودة إلى الخوض فيه.لكن ذلك المثال الصارخ، والأقصى تبعا لذلك، أبعد عن أن يكون الوحيد، بل أبعد عن أن يكون الأجلى دلالة، أقله لفرط إيغاله في اللامعقول. أما المثال الأفصح في ذلك الصدد، والموحي على نحو بنيوي، فهو دون ريب ذلك المتمثل في القضية الفلسطينية، تلك التي تفضح، بفعل رمزيتها واطّرادها في آن، ذلك التفاوت بين الإنسانية وحقوق الإنسان.
فقد جاء السماح بقيام الدولة العبرية، وذاك بالمناسبة جد في الفترة التي شهدت صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إحقاقا لحق إنساني اعتُبر أساسيا وأوليا، هو المتمثل في تمكين اليهود، بعد طول اضطهاد كانت المحرقة أوجه المأسوي، من «وطن قومي»، ولكن ما كان لافتا في ذلك السخاء غير المسبوق أن إحقاق ذلك الحق كان ذاهلا تمام الذهول عن حقوق أخرى يُفترض أنها مساوية، لإنسان آخر، يُفترض أنه هو أيضا مساوٍ، هو ذلك الفلسطيني. وفي ذلك ما قد يستوي إقرارا، ضمنيا ولكنه ناطق بطبيعة ذلك اللبس، بأنه لا سبيل إلى إقرار إنسانية تلك الحقوق إلا بإنكار إنسانية أحد الطرفين وإعلان خروجه منها.
وهكذا ولكل ذلك، قد لا يتحقق إصلاح حقوق الإنسان إلا بمطابقة، لا تزال بعيدة عصية، بين إطلاقية تلك الحقوق وإطلاقية الإنسان.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 14-12-2008

الاثنين، 8 ديسمبر 2008

باراك أوباما في الشرق الأوسط: هل يصحّح بوش؟

صالح بشير

مبررة تبدو تلك الريبة وذلك الحذر، بشأن سياسة الإدارة الأميركية المقبلة حيال قضايا الشرق والأوسط والمسألة الفلسطينية لا سيما، يكادان يعلنان خيبة الأمل قبل أوانها وحصولها، ما دام البيت الأبيض لم ينتقل بعد إلى نزلائه الجدد ولم يستلموا زمام أمره، ولم يباشروا السياسات التي أزمعوا أو قد يزمعون.
هناك استباق إذن، في العالم العربي ولدى جل نخبه، أقله تلك الحائزة على «صلاحية» القول والتعبير، سِمته (ذلك الاستباق) السلبية، مُطلقة أو غالبة، حيال ما قد يصدر أو لا يصدر عن الإدارة الأميركية المقبلة من مواقف ومبادرات حيال الشرق الأوسط، والموضوع الفلسطيني على وجه أخص، قوامه ومبعثه حتى اللحظة، إشارات بدرت عن الرئيس الأميركي المنتخب، بدت، لأبناء هذه المنطقة، غير مطمئنة، شأن تعيينه صديقا له إسرائيليا كبيرا لموظفي البيت الأبيض، أو استنكافه عن سلوك مسلك القطيعة مع كل سابق، وجنوحه إلى توخي سبيل الاستمرارية، كما تدل تركيبة فريقه الأمني الجديد-القديم.
والحق أنه إذا كان التوجس ذاك مبررا، على ما سبقت الإشارة، فإن المسؤولية عنه تقع على نحو حصري أو يكاد على متلقي الرسالة لا على صاحبها، فالرجل، أي المرشح أوباما، لم يتفوه طوال حملته الانتخابية بتعهدات في ذلك الصدد تفيد مثل تلك القطيعة، وإن تحدث كثيرا عن «التغيير» وجعله شعاره الفارق، وهو لذلك في حل من مراعاة من أسقطوا عليه رغباتهم، فكان أن انتقلوا بذلك من إفراط إلى إفراط، من إفراط في التفاؤل لأن الرئيس الأميركي الجديد من أصول إفريقية عرقا وإسلامية عقيدة، اسمه الثاني «حسين»، ولا يمكنه أن يكون، لمواصفاته تلك، إلا مناصرا للحقوق العربية، إلى إفراط في الخيبة، بات يلوح في حكم المؤكد، قد يدفع أهل التطرف والغلو إلى المطالبة بتطبيق حد الردّة عليه، وهي خيبة قد عبر عنها أيمن الظواهري، وهو في هذا المضمار مجرد مثال وإن كان مثالا أقصى، بأكثر الألفاظ بذاءة، إذ وصف الرئيس الأميركي الجديد بأنه «عبد البيت».
هناك تغيير تحقق، لا ريب في ذلك ولا مراء، ولكنه من غير قبيل ما يعنينا أو نهتم به عادة، هو المتمثل في إعادة تفعيل الديموقراطية، وفي توسيع مداها بما يمكن من إدراج سليل أقلية منبوذة ومضطهدة تاريخيا، في عداد النخب الحاكمة على رأس الدولة الأولى في العالم، ولكن التغيير ذاك لا يُترجم ضرورة انقلابا جذريا في السياسات، في ديموقراطيات راسخة، قوامها الاستمرارية.
بل أننا قد لا نتورع، إن أخذنا بذلك الاعتبار، عن إضفاء قدر من النسبية على هزيمة البوشية في الانتخابات الأميركية الأخيرة، تلك التي بدت نتائجها نقضا لها مبرما. أما النسبية التي نعني، فهي تلك التي تفترض وجود مستويين في البوشية قد لا يتعين الخلط بينهما: الأول هو ذلك الإيديولوجي، وهذا كانت قد لاحت عليه علامات التأزم والإخفاق منذ أمدٍ من ولاية بوش الثانية، وحتى قبل أن يأتي الانهيار المالي الأخير ليحرج الإيديولوجيا النيوليبرالية إحراجا هدد بنسفها وجعلها في موقع دفاعي، والثاني هو ذلك المتعلق بالاستراتيجيات الكبرى التي صير إلى بلورتها وإلى تحديدها في عهد بوش، خصوصا إثر عدوان الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، تصريفا للقوة الأميركية وموضعةً ولفعلها على الصعيد الكوني، وهو ما قد يكون رسم أفقا يندرج في المدى الطويل، لا يمكن لتداول انتخابي أن يلغيه ولا هو من وظائفه.
الأرجح إذن أن تظل تلك الاستراتيجيات الكبرى قائمة، وفي مسلك الإدارة المقبلة ما يوحي بذلك، من الإبقاء على روبرت غايتس وزيرا للدفاع لاستكمال ما كان قد بدأه في عهد بوش، في العراق لا سيما، إعدادا لإنهاء الوجود الأميركي في ذلك، وفق الصيغة التي قام عليها منذ سنة 2003، باتجاه مأسسة ذلك الوجود، إلى «الحملة على الإرهاب» التي يبدو أنها ستظل بندا أساسيا من بنود السياسة الخارجية للإدارة الجديدة، وإن مع ترشيدها ونزع ما اتسمت به من نزق ومن تهور إيديولوجيين في عهد الإدارة الآيلة إلى انصراف، إلى مبدأ «بناء الأمم»، أو «بناء الدول»، الذي كان من المبادئ الأثيرة لدى الإدارة الآفلة ويبدو أن تلك التي ستخلفها عاملة على استعادته وتبنّيه، ما قد يجعل التغيير، في كل تلك المجالات، لا يعدو أن يكون إصلاحا للبوشية، تقويما لشططها ولصلفها ولأدائها، ولما اعترى كل ذلك من جنوح إيديولوجي ومن ارتجال وسوء تصرف وتقدير. وهكذا، على سبيل المثال، إذا كان أوباما قد أبدى لينا في ما يتعلق بالتفاوض مع إيران ومحاورتها، فإنه عبّر عن حزم، نظير لذلك الذي عبّر عنه سلفه، في ما يتعلق بمنع الجمهورية الإسلامية من حيازة السلاح النووي.
كل ذلك للقول بأنه قد لا يتعين توقع الكثير من التغيير الذي جاءت به الانتخابات الأميركية الأخيرة على صعيد حل المشكلة الفلسطينية مثلا، إذ لم تكن موانع ذلك الحل من طبيعة إيديولوجية بحتة، حتى يُحدِث ذهاب بوش في شأنها تغييرا جوهريا، بل كانت أيضا من طبيعة سياسية واستراتيجية، موضوعية، لا تزال قائمة، تتمثل في خصوصية علاقة التحالف بين الولايات المتحدة والدولة العبرية وتعنت هذه الأخيرة، وفي العامل الإيراني وما نجم عنه من استقطاب حاد على صعيد المنطقة، في الضعف العربي وفي الاهتراء الفلسطيني الداخلي وقد تفاقم انقساما وحربا أهلية....
لا يعني كل ذلك، بطبيعة الحال، الاستسلام في إلى ضرب من جبرية، استراتيجية أو سواها، تيئيسا وإحباطا، إذ لا مناص من استمرار السعي في طلب الحل والضغط من أجل بلوغه، ولكن من خلال اجتراح شروطه السياسية، بقطع النظر عمن يكون نزيل البيت الأبيض وعمن تكون الأغلبية الحاكمة، وبصرف النظر عن تعاطفها من عدمه.ذلك أن التغيير الذي شهدته الولايات المتحدة ليس واعدا بالحل من تلقائه، ولمجرد حصوله، غير أن مزيته أنه قد يفتح في وجه المطالب الفلسطينية مجالا نضاليا جديدا، هو التمثل في نسبته إلى ذلك الجانب من القيم الإنسانية التي أفضى الإقبال عليها إلى انتخاب ملوّن على رأس القوة العظمى في العالم: حس العدالة ونبذ التمييز المشين. وتلك نقطة تتطلب تأملا وسبرا.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 7-12-2008

الأربعاء، 3 ديسمبر 2008

الـ"ميدياقراطية" وابتسار حرية التعبير

صالح بشير

نجم عن تطور تكنولوجيات الاتصال، على نحو جعلها في حِل من الشروط والحدود والمحددات الترابية للأوطان والجماعات، بانتمائها إلى حيّز مفارق، يتمثل في الفضاء الخارجي، ذلك الذي تتوسله «الفضائيات»، أو في صنو له «افتراضي»، هو مجال شبكة الإنترنت، تحوّلُ الـ«ميدياقراطية»، كما سبق توصيفها في مقالة الأسبوع الماضي، إلى ظاهرة كونية، أوجدت لأول مرة في التاريخ ربما، انفصالا بين السلطة والعملية الإعلامية، أوجد بدوره تبايناً بين مجاليْ فعل كل من المرتبتين تينك، طالما أن السلطة لاتزال مرتبطة بحيز ترابي معلوم مُعرّف، أضحت العملية الإعلامية متحررة منه على نحو ناجز أو يكاد.
ليس أدل على ذلك التفاوت المستجدّ من عسر الرقابة في زمننا هذا أن تمارسها سلطة من السلطات، فهي في ما يخص الإعلام الفضائي متعذرة ممتنعة، لا يجدي في شأنها منع ولا قمع، وهي في ما يخص شبكة الإنترنت بالغة النسبية، إذ إن وسائل مداورتها وفيرة وعلى قدر من نجاعة.
فهل أدى ذلك إلى تمكين حرية التعبير وإلى توسيع مداها لتصبح في متناول من كان من مزاولتها محروماً، على ما يقول رأي شائع، ربما مال إلى الخلط بين الكم والنوع؟ الأرجح أن لا أو، على الأقل، ليس بالقدر الذي يُصوّر عادةً، وذلك لأسباب متعددة: أولها ذلك الذي صير إلى تناوله، على أعمدة هذه الصحيفة، في مناسبة سابقة، من أن الإعلام المعاصر، ووسائله التقنية المستجدّة، قد نجحت بالفعل في إرساء ضرب من حرية، ولكنها تتوقف عند «حرية التلقي» ولا ترقى إلى مصاف «حرية التعبير»، ومن أن تلك لا تعني، بداهةً، هذه. بمعنى آخر، إذا كانت «حرية التلقي» أضحت مضمونة أو في حكم المضمونة، في متناول كل مُشاهد، وأحيانا كل قارئ، مستفيدٍ من تراجع الرقابة أو من تلاشي دورها، فذلك ليس حال «حرية التعبير» التي لاتزال خاضعة لسطوة المال ولسطوة السلطة السياسية، واقعة تحت نفوذهما، معا أو إحداهما دون الأخرى.
ولعل أهم ما يُستخلص من ذلك، إن سلمنا به، أنه لا سبيل، في ذلك المضمار، إلى التعويض بالوسائل التقنية، مهما بلغت تطورا وأداءً، عما أخفقت وقصرت في تحقيقه السياسة، أي أن «حرية التعبير» تظل متعلقة بالحريات الأساسية، وباجتراح المواطن القادر على التعبير في كنف نصاب ديمقراطي، وأننا لن ننال، في غياب ذلك، من «حرية التعبير» إلا ما كان من قبيل الضوضاء وحفلات الردح والتشاتم التي تملأ شاشات فضائياتنا. هل من باب المصادفة مثلا إن الكشف عن أي من الوقائع الفارقة والمشينة التي حفت بغزو العراق واحتلاله، من فضيحة معتقل أبو غريب إلى جريمة استخدام اليورانيوم المنضّب ضد المدنيين إلى سواهما، لم يتحقق بفعل وسائل إعلامنا وفضائياتنا العتيدة، بل حصرا بفعل وسائل إعلام غربية تفهم مزاولة حريتها على أنها السعي وراء المعلومة وإيصالها إلى الناس؟
ثم إن الـ«ميدياقراطية» إذ سادت كونيّا على نحو ما أشرنا، أوجدت وهما بالمساواة أمام الخبر والمعلومة والرأي بين سكان المعمورة، أي بين كل المتمتعين بـ»حرية التلقي» في كل مكان، مادام يُفترض فيهم أنهم يتلقون نفس الخبر، آبقا عن كل رقابة، في نفس اللحظة، وبنفس الطريقة وبذات الصور في أحيانا كثيرة، لا فارق في ذلك بين من يعيشون في كنف ديمقراطية مستتبة، وبين من يكابدون استبدادا مطبقا، وإن تفاوت درجاتٍ واستفحالا.
أما عن وجه الوهم في إرساء تلك المساواة فقوامه أن «الميدياقراطية» ووسائلها، إذ امتلكت إمكانات وتقنيات مخاطبة الجميع دون تخصيص، وبصرف النظر عن كل تحديد ترابي، لم تتوصل إلى ذلك بواسطة مخاطبة الفرد مواطنا في كل مكان، باسم «مبادئ كونية» تأخذ بها، بل بواسطة تسليع الإعلام، بمعناه الأوسع، وتوخي تقنيات السوق في ترويجه، شكلا ومحتوى. وبذلك، فإن الميدياقراطية، لا تتوجه إلى متلقّ، تفترض فيه صفة المواطنة، في كل مكان، بل إنها تخاطب مستهلكا، نجح اقتصاد السوق المعولم، في تنميطه، والفارق جلي بين المقاربتين، حيث إن السوق، ومتطلباته، حيادي حيال المبادئ الكبرى، من مواطنة أو سواها، أقله ما ظلت النيوليبرالية مستحكمة، كما كانت الحال طوال العقدين الأخيرين اللذين شهد آخرهما، لا سيما ذلك البوشي، خلطا فظيعا بين حرية السوق وحرية الإنسان، كانت له من العواقب الوخيمة الكثير.
لذلك، يمكن القول إن الميدياقراطية، وقد أضحت شأنا كونيا، قد شوشت فكرة الحرية، بدءا بحرية التعبير ذاتها، فبهّتت وظيفة الإعلام وابتسرتها، من حيث زعمت تعزيز حريتها، بأن ألحقتها رديفا لحرية السوق لا أكثر من ذلك، حتى إن مولتها دول، تأخذ في ذلك بتقنيات السوق ومتطلباته، تماما كما تفعل عندما تدخل غمار سوق المال بواسطة صناديقها السيادية.
* كاتب تونسي

نشر في يومية "الجريدة" الكويتية، بتاريخ 2-12-2008

الأحد، 30 نوفمبر 2008

انتخاب اوباما بصفته إنهاء لأزمة الديموقراطية وعلاجاً من النيوليبرالية

صالح بشير

أنهى الأنموذج الديموقراطي الحرب الباردة ظافراً منتصراً، ولكنه خرج من تلك المواجهة ضد المعسكر التوتاليتاري، «إمبراطورية الشر» كما سماها رونالد ريغان وهو يخوض ضدها الجولة الأخيرة والحاسمة، منهكاً مستَنفَداً متأزماً.
من هنا قصر عمر يوتوبيا «نهاية التاريخ» (أو اختتامه وفق تعبير أفضل)، ومن هنا خيبة التفاؤل الذي كان استشرى في شأن انتشار الديموقراطية في تسعينات القرن الماضي، والذي ما لبث أن انحطّ على يدي جورج بوش، وعلى أيدي إدارته ومحافظيه الجدد، إلى محض إرادوية إيديولوجية باءت بفشلها المعلوم. ذلك أن الأنموذج الديموقراطي بلغ طور الغلبة والانفراد وهو عاجز عن أن ينهض بأية «يوتوبيا».
ربما عاد ذلك إلى طبيعة الدعوة الديموقراطية، وهي ليست بالقيامية ولا بالخلاصية، تدحض الصفتين تينك وتنكرهما على نفسها وقامت عنهما بديلاً أو حاولت ذلك، منذ أن استبدّت بأوروبا حمّى الثورات في مستهل حداثتها. فهي تُقر بالواقع وتقر لتعدد عناصره وللقوى الضالعة فيه بشرعية متساوية أو تكاد، وهي لذلك لا تقوم على مبدأ «البدء من جديد» تتولاه، بمفردها، طليعة ما، وهي لذلك أيضاً، وسواء في صيغتها الأنكليكانية (البريطانية) أو الغاليكانية (الفرنسية)، إن استعرنا تعبيرين استخدمهما الفيلسوف والمفكر الاقتصادي فرديريك هايك في سياق مختلف نسبياً، عوضت عن الثورة بأن واكبت، كما في الحالة الأولى، تطورات الحداثة بأن لاءمت بينها وبين نظام الحكم على نحو تدريجي، أو أنها تجاوزت الانقسامات التي أحدثتها الثورة، كما في الحالة الثانية، بأن أعادت إرساء السلام الأهلي. لكل ذلك، يكاد القول بوجود «ثورة ديموقراطية»، وإن استسهله بعض الكتبة، يكون خُلفاً، تجاوزاً لفظياً لا معنى له.
هذا من حيث المبدأ، وهو، وبصفته تلك، لا يشي بالتأزم الذي سبقت الإشارة إليه ولا يفيد به، إذ أن التأزم ذاك لا يُعلل بتلك السمة التي للديموقراطية، وإن انتهزها ونشأ في كنفها ومن مقدماتها. أما مبعثه فربما كان، في وجه من أوجهه، ثمرة من ثمار نجاح خارق بلغته الديموقراطية وارتدّ عليها، هو المتمثل في كفاءتها، بالتضافر مع رخاء اقتصادي غير مسبوق في التاريخ، في إنتاج الفرد وفي إمعانها في ذلك على نحو أفضى إلى اجتراح فرد مطلق الفردية، كف، لفرط فرديته، عن أن يكون مواطناً.
وقد أسهبت كتابات كثيرة، فكريـــة أو صحافية، فـــــــي العقــــود الماضية، في توصيف ذلك الفـــرد، في إبراز نزوعه إلى المتعــوية، ضمور اكتراثه بالشأن العام، عزوفه عن السياســـة، بَرَمه بمؤسسات الانتظام الجماعي، من نقابات ومـــــن أحزاب ومن جمعيات وما إليها، ضيــــق أفقــــه وانكفائــــه علـــــى عالم هــو ذلك المتمحور حول ذاته، قلة إقباله على التصويت في الغالب الأعمّ، تلاشي الحسّ المدني لديه...
وتلك عاهات زاد طينها بلة سيطرة ما وصفه البعض بـ «الفكر الواحد»، أداة وحيدة في قراءة الواقع وفي مقاربته، قوامها التسليم بالنيوليبرالية الاقتصادية أفقاً لا مناص منه ولا سبيل إلى تجاوزه، إلا نكوصاً نحو ماضوية عقيمة غير مجدية، فانتفت بذلك ملَكة الاختيار، وهي شرط الحرية وتعريفها، وأضحت الانتخابات طقوساً، مفرغة من محتواها، دورية، كجلّ الطقوس، وفقدت وظيفتها السياسية والمجتمعية.
تلك كانت حال الديموقراطية، في الغرب وفي الولايات المتحدة تخصيصاً، في زمن الحداثة الفائقة أو «ما بعد الحداثة» كما يحلو للبعض تسميته، مسار انحدار استمر حتى الانتخابات الأميركية الأخيرة، تلك التي يمكن القول أنها أعادت إلى الأنموذج الديموقراطي ألقه ووظيفته، إذ استعادت المواطن - الناخب، فاعلاً لا يتوقف فعله عند إعادة إنتاج ما هو قائم إلى ما لا نهاية، منشغلاً بالشأن العام مقبلاً على إصلاح اختلالاته، مجترئاً على ما استقر أعرافاً في توزيع السلطة والنفوذ، محدثاً في شأنها، بانتخابه شاباً أسود، انقلاباً جذرياً، مخترعاً ذلك النصاب ما بعد العرقي الذي كان بلوغه يبدو في حكم المستحيل قبل أشهر قليلة خلت.
إن كان من شيء، أساسي وفارق، جاء به الاقتراع الأميركي الأخير فهو هذا، أي نجاحه في إعادة تفعيل الديموقراطية وفي إنهاء أزمتها، في تمكينها من فاعلية لها مستجدّة من خلال تبيئتها في واقع الحداثة الفائقة، وفي امتلاك زمام أمرها من قبل مواطنٍ عاد إلى الوجود، متجاوزاً وضعه كفرد - مستهلك حصراً، آل أمره إلى ضربٍ من تشييء، شيئاً من الأشياء التي يزعم حيازتها والتمتع بها.
ولم يكن كل ذلك بالأمر الهيّن أو مجرد استئناف لحالة قائمة أصابها خلل طارئ، بل هو يرتقي إلى مصاف إعادة الاختراع التي سينكبّ الفكر السياسي عليها، لا محالة، دراسةً واستكناهاً.
غير أن ذلك المستجدّ يستعيد قديماً هو من المميزات الفارقة للأنموذج الديموقراطي، وهو ذلك المتمثل في أن هذا الأخير مثال يُستلهم وليس نظاماً يُفرض بالقوة أو يُصدّر، على ما حاول جورج بوش وأخفق، ولا غرو في أن الانتخابات الأميركية الأخيرة أعادت إلى ذلك الأنموذج الديموقراطي مفعوله وتأثيره كمثال.
قد لا يكون صحيحاً ولا دقيقاً والحالة هذه ما ذهب إليه البعض، من أن زوال البوشية، التي كان من بنود أجندتها نشر الديموقراطية في ربوع الشرق الأوسط «الأكبر» أو «الأوسع»، من شأنه أن يطوي السعي نحو مثل ذلك النظام وأن يريح أنظمة المنطقة من عناء مكابدة الضغوط في سبيل إرسائه. فمثل ذلك، لم يحصل، أولاً، في عهد بوش، على نحو جدي، يتعدى مجرد التماس مبررات نبيلة، لحرب، هي تلك العراقية، لم تكن نبيلة، دوافع وأداءً. ثم أن نشر الديموقراطية لا يمكنه أن يكون بنداً في سياسة تدخل خارجي، ولا يمكنه أن ينال النجاعة بصفته تلك، أقله لأنه يقيم تناقضاً، كؤوداً عصيّاً، بين السيادة والديموقراطية، وقد يودي بتلك من دون أن يحقق هذه.
لذلك، فإن أكبر خدمة أسدتها الولايات المتحدة للديموقراطية في العالم، هي تلك المتمثلة في انتخاباتها الأخيرة، إذ أعادت، إلى الأنموذج الديموقراطي، على ما سبقت الإشارة، وظيفة المثال، تُخاطب من خلاله شعوب العالم ونخبه.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 30-11-2008