صالح بشير
مبررة تبدو تلك الريبة وذلك الحذر، بشأن سياسة الإدارة الأميركية المقبلة حيال قضايا الشرق والأوسط والمسألة الفلسطينية لا سيما، يكادان يعلنان خيبة الأمل قبل أوانها وحصولها، ما دام البيت الأبيض لم ينتقل بعد إلى نزلائه الجدد ولم يستلموا زمام أمره، ولم يباشروا السياسات التي أزمعوا أو قد يزمعون.
هناك استباق إذن، في العالم العربي ولدى جل نخبه، أقله تلك الحائزة على «صلاحية» القول والتعبير، سِمته (ذلك الاستباق) السلبية، مُطلقة أو غالبة، حيال ما قد يصدر أو لا يصدر عن الإدارة الأميركية المقبلة من مواقف ومبادرات حيال الشرق الأوسط، والموضوع الفلسطيني على وجه أخص، قوامه ومبعثه حتى اللحظة، إشارات بدرت عن الرئيس الأميركي المنتخب، بدت، لأبناء هذه المنطقة، غير مطمئنة، شأن تعيينه صديقا له إسرائيليا كبيرا لموظفي البيت الأبيض، أو استنكافه عن سلوك مسلك القطيعة مع كل سابق، وجنوحه إلى توخي سبيل الاستمرارية، كما تدل تركيبة فريقه الأمني الجديد-القديم.
والحق أنه إذا كان التوجس ذاك مبررا، على ما سبقت الإشارة، فإن المسؤولية عنه تقع على نحو حصري أو يكاد على متلقي الرسالة لا على صاحبها، فالرجل، أي المرشح أوباما، لم يتفوه طوال حملته الانتخابية بتعهدات في ذلك الصدد تفيد مثل تلك القطيعة، وإن تحدث كثيرا عن «التغيير» وجعله شعاره الفارق، وهو لذلك في حل من مراعاة من أسقطوا عليه رغباتهم، فكان أن انتقلوا بذلك من إفراط إلى إفراط، من إفراط في التفاؤل لأن الرئيس الأميركي الجديد من أصول إفريقية عرقا وإسلامية عقيدة، اسمه الثاني «حسين»، ولا يمكنه أن يكون، لمواصفاته تلك، إلا مناصرا للحقوق العربية، إلى إفراط في الخيبة، بات يلوح في حكم المؤكد، قد يدفع أهل التطرف والغلو إلى المطالبة بتطبيق حد الردّة عليه، وهي خيبة قد عبر عنها أيمن الظواهري، وهو في هذا المضمار مجرد مثال وإن كان مثالا أقصى، بأكثر الألفاظ بذاءة، إذ وصف الرئيس الأميركي الجديد بأنه «عبد البيت».
هناك تغيير تحقق، لا ريب في ذلك ولا مراء، ولكنه من غير قبيل ما يعنينا أو نهتم به عادة، هو المتمثل في إعادة تفعيل الديموقراطية، وفي توسيع مداها بما يمكن من إدراج سليل أقلية منبوذة ومضطهدة تاريخيا، في عداد النخب الحاكمة على رأس الدولة الأولى في العالم، ولكن التغيير ذاك لا يُترجم ضرورة انقلابا جذريا في السياسات، في ديموقراطيات راسخة، قوامها الاستمرارية.
بل أننا قد لا نتورع، إن أخذنا بذلك الاعتبار، عن إضفاء قدر من النسبية على هزيمة البوشية في الانتخابات الأميركية الأخيرة، تلك التي بدت نتائجها نقضا لها مبرما. أما النسبية التي نعني، فهي تلك التي تفترض وجود مستويين في البوشية قد لا يتعين الخلط بينهما: الأول هو ذلك الإيديولوجي، وهذا كانت قد لاحت عليه علامات التأزم والإخفاق منذ أمدٍ من ولاية بوش الثانية، وحتى قبل أن يأتي الانهيار المالي الأخير ليحرج الإيديولوجيا النيوليبرالية إحراجا هدد بنسفها وجعلها في موقع دفاعي، والثاني هو ذلك المتعلق بالاستراتيجيات الكبرى التي صير إلى بلورتها وإلى تحديدها في عهد بوش، خصوصا إثر عدوان الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، تصريفا للقوة الأميركية وموضعةً ولفعلها على الصعيد الكوني، وهو ما قد يكون رسم أفقا يندرج في المدى الطويل، لا يمكن لتداول انتخابي أن يلغيه ولا هو من وظائفه.
الأرجح إذن أن تظل تلك الاستراتيجيات الكبرى قائمة، وفي مسلك الإدارة المقبلة ما يوحي بذلك، من الإبقاء على روبرت غايتس وزيرا للدفاع لاستكمال ما كان قد بدأه في عهد بوش، في العراق لا سيما، إعدادا لإنهاء الوجود الأميركي في ذلك، وفق الصيغة التي قام عليها منذ سنة 2003، باتجاه مأسسة ذلك الوجود، إلى «الحملة على الإرهاب» التي يبدو أنها ستظل بندا أساسيا من بنود السياسة الخارجية للإدارة الجديدة، وإن مع ترشيدها ونزع ما اتسمت به من نزق ومن تهور إيديولوجيين في عهد الإدارة الآيلة إلى انصراف، إلى مبدأ «بناء الأمم»، أو «بناء الدول»، الذي كان من المبادئ الأثيرة لدى الإدارة الآفلة ويبدو أن تلك التي ستخلفها عاملة على استعادته وتبنّيه، ما قد يجعل التغيير، في كل تلك المجالات، لا يعدو أن يكون إصلاحا للبوشية، تقويما لشططها ولصلفها ولأدائها، ولما اعترى كل ذلك من جنوح إيديولوجي ومن ارتجال وسوء تصرف وتقدير. وهكذا، على سبيل المثال، إذا كان أوباما قد أبدى لينا في ما يتعلق بالتفاوض مع إيران ومحاورتها، فإنه عبّر عن حزم، نظير لذلك الذي عبّر عنه سلفه، في ما يتعلق بمنع الجمهورية الإسلامية من حيازة السلاح النووي.
كل ذلك للقول بأنه قد لا يتعين توقع الكثير من التغيير الذي جاءت به الانتخابات الأميركية الأخيرة على صعيد حل المشكلة الفلسطينية مثلا، إذ لم تكن موانع ذلك الحل من طبيعة إيديولوجية بحتة، حتى يُحدِث ذهاب بوش في شأنها تغييرا جوهريا، بل كانت أيضا من طبيعة سياسية واستراتيجية، موضوعية، لا تزال قائمة، تتمثل في خصوصية علاقة التحالف بين الولايات المتحدة والدولة العبرية وتعنت هذه الأخيرة، وفي العامل الإيراني وما نجم عنه من استقطاب حاد على صعيد المنطقة، في الضعف العربي وفي الاهتراء الفلسطيني الداخلي وقد تفاقم انقساما وحربا أهلية....
لا يعني كل ذلك، بطبيعة الحال، الاستسلام في إلى ضرب من جبرية، استراتيجية أو سواها، تيئيسا وإحباطا، إذ لا مناص من استمرار السعي في طلب الحل والضغط من أجل بلوغه، ولكن من خلال اجتراح شروطه السياسية، بقطع النظر عمن يكون نزيل البيت الأبيض وعمن تكون الأغلبية الحاكمة، وبصرف النظر عن تعاطفها من عدمه.ذلك أن التغيير الذي شهدته الولايات المتحدة ليس واعدا بالحل من تلقائه، ولمجرد حصوله، غير أن مزيته أنه قد يفتح في وجه المطالب الفلسطينية مجالا نضاليا جديدا، هو التمثل في نسبته إلى ذلك الجانب من القيم الإنسانية التي أفضى الإقبال عليها إلى انتخاب ملوّن على رأس القوة العظمى في العالم: حس العدالة ونبذ التمييز المشين. وتلك نقطة تتطلب تأملا وسبرا.
نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 7-12-2008
مبررة تبدو تلك الريبة وذلك الحذر، بشأن سياسة الإدارة الأميركية المقبلة حيال قضايا الشرق والأوسط والمسألة الفلسطينية لا سيما، يكادان يعلنان خيبة الأمل قبل أوانها وحصولها، ما دام البيت الأبيض لم ينتقل بعد إلى نزلائه الجدد ولم يستلموا زمام أمره، ولم يباشروا السياسات التي أزمعوا أو قد يزمعون.
هناك استباق إذن، في العالم العربي ولدى جل نخبه، أقله تلك الحائزة على «صلاحية» القول والتعبير، سِمته (ذلك الاستباق) السلبية، مُطلقة أو غالبة، حيال ما قد يصدر أو لا يصدر عن الإدارة الأميركية المقبلة من مواقف ومبادرات حيال الشرق الأوسط، والموضوع الفلسطيني على وجه أخص، قوامه ومبعثه حتى اللحظة، إشارات بدرت عن الرئيس الأميركي المنتخب، بدت، لأبناء هذه المنطقة، غير مطمئنة، شأن تعيينه صديقا له إسرائيليا كبيرا لموظفي البيت الأبيض، أو استنكافه عن سلوك مسلك القطيعة مع كل سابق، وجنوحه إلى توخي سبيل الاستمرارية، كما تدل تركيبة فريقه الأمني الجديد-القديم.
والحق أنه إذا كان التوجس ذاك مبررا، على ما سبقت الإشارة، فإن المسؤولية عنه تقع على نحو حصري أو يكاد على متلقي الرسالة لا على صاحبها، فالرجل، أي المرشح أوباما، لم يتفوه طوال حملته الانتخابية بتعهدات في ذلك الصدد تفيد مثل تلك القطيعة، وإن تحدث كثيرا عن «التغيير» وجعله شعاره الفارق، وهو لذلك في حل من مراعاة من أسقطوا عليه رغباتهم، فكان أن انتقلوا بذلك من إفراط إلى إفراط، من إفراط في التفاؤل لأن الرئيس الأميركي الجديد من أصول إفريقية عرقا وإسلامية عقيدة، اسمه الثاني «حسين»، ولا يمكنه أن يكون، لمواصفاته تلك، إلا مناصرا للحقوق العربية، إلى إفراط في الخيبة، بات يلوح في حكم المؤكد، قد يدفع أهل التطرف والغلو إلى المطالبة بتطبيق حد الردّة عليه، وهي خيبة قد عبر عنها أيمن الظواهري، وهو في هذا المضمار مجرد مثال وإن كان مثالا أقصى، بأكثر الألفاظ بذاءة، إذ وصف الرئيس الأميركي الجديد بأنه «عبد البيت».
هناك تغيير تحقق، لا ريب في ذلك ولا مراء، ولكنه من غير قبيل ما يعنينا أو نهتم به عادة، هو المتمثل في إعادة تفعيل الديموقراطية، وفي توسيع مداها بما يمكن من إدراج سليل أقلية منبوذة ومضطهدة تاريخيا، في عداد النخب الحاكمة على رأس الدولة الأولى في العالم، ولكن التغيير ذاك لا يُترجم ضرورة انقلابا جذريا في السياسات، في ديموقراطيات راسخة، قوامها الاستمرارية.
بل أننا قد لا نتورع، إن أخذنا بذلك الاعتبار، عن إضفاء قدر من النسبية على هزيمة البوشية في الانتخابات الأميركية الأخيرة، تلك التي بدت نتائجها نقضا لها مبرما. أما النسبية التي نعني، فهي تلك التي تفترض وجود مستويين في البوشية قد لا يتعين الخلط بينهما: الأول هو ذلك الإيديولوجي، وهذا كانت قد لاحت عليه علامات التأزم والإخفاق منذ أمدٍ من ولاية بوش الثانية، وحتى قبل أن يأتي الانهيار المالي الأخير ليحرج الإيديولوجيا النيوليبرالية إحراجا هدد بنسفها وجعلها في موقع دفاعي، والثاني هو ذلك المتعلق بالاستراتيجيات الكبرى التي صير إلى بلورتها وإلى تحديدها في عهد بوش، خصوصا إثر عدوان الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، تصريفا للقوة الأميركية وموضعةً ولفعلها على الصعيد الكوني، وهو ما قد يكون رسم أفقا يندرج في المدى الطويل، لا يمكن لتداول انتخابي أن يلغيه ولا هو من وظائفه.
الأرجح إذن أن تظل تلك الاستراتيجيات الكبرى قائمة، وفي مسلك الإدارة المقبلة ما يوحي بذلك، من الإبقاء على روبرت غايتس وزيرا للدفاع لاستكمال ما كان قد بدأه في عهد بوش، في العراق لا سيما، إعدادا لإنهاء الوجود الأميركي في ذلك، وفق الصيغة التي قام عليها منذ سنة 2003، باتجاه مأسسة ذلك الوجود، إلى «الحملة على الإرهاب» التي يبدو أنها ستظل بندا أساسيا من بنود السياسة الخارجية للإدارة الجديدة، وإن مع ترشيدها ونزع ما اتسمت به من نزق ومن تهور إيديولوجيين في عهد الإدارة الآيلة إلى انصراف، إلى مبدأ «بناء الأمم»، أو «بناء الدول»، الذي كان من المبادئ الأثيرة لدى الإدارة الآفلة ويبدو أن تلك التي ستخلفها عاملة على استعادته وتبنّيه، ما قد يجعل التغيير، في كل تلك المجالات، لا يعدو أن يكون إصلاحا للبوشية، تقويما لشططها ولصلفها ولأدائها، ولما اعترى كل ذلك من جنوح إيديولوجي ومن ارتجال وسوء تصرف وتقدير. وهكذا، على سبيل المثال، إذا كان أوباما قد أبدى لينا في ما يتعلق بالتفاوض مع إيران ومحاورتها، فإنه عبّر عن حزم، نظير لذلك الذي عبّر عنه سلفه، في ما يتعلق بمنع الجمهورية الإسلامية من حيازة السلاح النووي.
كل ذلك للقول بأنه قد لا يتعين توقع الكثير من التغيير الذي جاءت به الانتخابات الأميركية الأخيرة على صعيد حل المشكلة الفلسطينية مثلا، إذ لم تكن موانع ذلك الحل من طبيعة إيديولوجية بحتة، حتى يُحدِث ذهاب بوش في شأنها تغييرا جوهريا، بل كانت أيضا من طبيعة سياسية واستراتيجية، موضوعية، لا تزال قائمة، تتمثل في خصوصية علاقة التحالف بين الولايات المتحدة والدولة العبرية وتعنت هذه الأخيرة، وفي العامل الإيراني وما نجم عنه من استقطاب حاد على صعيد المنطقة، في الضعف العربي وفي الاهتراء الفلسطيني الداخلي وقد تفاقم انقساما وحربا أهلية....
لا يعني كل ذلك، بطبيعة الحال، الاستسلام في إلى ضرب من جبرية، استراتيجية أو سواها، تيئيسا وإحباطا، إذ لا مناص من استمرار السعي في طلب الحل والضغط من أجل بلوغه، ولكن من خلال اجتراح شروطه السياسية، بقطع النظر عمن يكون نزيل البيت الأبيض وعمن تكون الأغلبية الحاكمة، وبصرف النظر عن تعاطفها من عدمه.ذلك أن التغيير الذي شهدته الولايات المتحدة ليس واعدا بالحل من تلقائه، ولمجرد حصوله، غير أن مزيته أنه قد يفتح في وجه المطالب الفلسطينية مجالا نضاليا جديدا، هو التمثل في نسبته إلى ذلك الجانب من القيم الإنسانية التي أفضى الإقبال عليها إلى انتخاب ملوّن على رأس القوة العظمى في العالم: حس العدالة ونبذ التمييز المشين. وتلك نقطة تتطلب تأملا وسبرا.
نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 7-12-2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق