صالح بشير
قد لا تُدرك فكرة، مبدأ، دعوة إلا بواسطة تحديدها سلبا، من خلال ما تهمله، ما تستبعده، ما تستثنيه، عن وعي أو عن غير إرادة. فهي تعين مجال صلاحيتها، وليس لها إلا أن تفعل، أقله لتبيان ما يميزها، للتعريف بما يصنع فرادتها أو ما تحسبه كذلك. ما من فكرة، ما من مبدأ، ما من مبدأ، إلا وتطرح نفسها إيجابيا، في ما يبدو مسعى يتخطى تأكيد الذات إلى تحصينها، إذ يصعب، إن لم يتعذر، دحضها أو مجرد مماحكتها، في ما تأنسه في نفسها إيجابا، في ما قامت من أجل إقراره.
خذ مثلا فكرة حقوق الإنسان أو مبدئها، ذانك اللذان يُحتفى هذه الأيام بالذكرى الستين لإصدار إعلانهما العالمي عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، لنرى أن الأمر الآنف الذكر قد يصح في شأنها كما لا يصح في شأن سواها. إذ من عساه، في أيامنا، يجابه تلك الحقوق ويعاندها؟ من فعل وجد نفسه في موقع دفاعي لا يُحسد عليه أو اضطر إلى مماشاة منطق تلك الحقوق الإنسانية (أو قد يُقال «ثقافتها» على ما يقتضي اللسان الدارج في زماننا) بأن يطلق صفة الحقوق، محاولا بذلك تسويغه، على ما هو ليس في عدادها متنكرٌ لها، شأن ارتداء «البرقع» أو ما شاكله من أمارات الإجحاف أو التمييز.ذلك أن الحقوق تلك، والمبدأ القائل بها والمقرّ لها (مع أن الإقرار ذاك فيه نظر)، قد فرضت نفسها وحققت «هيْمنة»، ما جعل حتى أعتى عتاة الاستبداد يتمسحون بها، إذ أضحت عنوان الانخراط في الحداثة، أو على الأقل، في المعاصرة، مع أنها قديمة قدم العالم، على ما ذهب ويذهب بعض المفكرين والباحثين، مثل الألماني ماكس فيبر الذي أعاد بعض أبوتها إلى القديس بولس، أي إلى فترة تأسيس المسيحية، عندما لام هذا الأخير، بشيء من قسوة تأخذ في الحسبان كرامة الإنسان قبل أي اعتبار أو انتماء، نظيره القديس بطرس الذي كان على مائدته يؤاكل جمعا من «الأغيار» حتى إذا ما وفد لفيف من اليهود تحرج وانسحب من صحبة «غير المختونين» أولئك.
قد يكون الجديد الذي جاءت به العصور الحديثة أنها قامت بمأسسة تلك الحقوق، إن سلمنا بقدمها، فاتخذتها أساسا لإنشاء الدول وإحداث الأنصبة الاجتماعية وسن القوانين بل وحاولت إرساءها تشريعا دوليا، وأنها إذ فعلت ذلك، قد نجحت في فرضها «باراديغم»، يأخذ به الجميع، بما في ذلك أعداؤه الحقيقيون أو المفترضون، وإن من باب محاجّته على أرضيته أو من باب مداورته.
ومع ذلك، فإن المبدأ ذاك في أزمة. صحيح أن حال حقوق الإنسان الآن أفضل، وبما لا يقاس، مما كانت عليه في أربعينات القرن الماضي، في موفى الحرب العالمية الثانية، أقله لأنها آلت إلى قدر من كونية عمليّة ولم تعد شأنا شماليا غربيا خالصا، لا يمتد حتى إلى شرق القارة القديمة وجنوبها، ناهيك عن العالم، ولكن ما لا ريب فيه، من وجه آخر، أن الحقوق تلك لا تزال تُنتهك على نطاق واسع، حتى داخل الديموقراطيات ذاتها أو على يديها في أصقاع كثيرة.قد لا يعود ذلك فقط إلى مجرد صعوبة الإرساء وعسر الإنجاز، أو إلى مقتضيات التسييس، تفضي إلى توسل تلك المبادئ في سبيل ما لم توجد من أجله، جزءا من سياسة قوة وسعيا إلى فرض غلبة، ولكن الأزمة تلك ربما عادت إلى لبس يقوم عليه مبدأ حقوق الإنسان، في صيغته الحديثة، من أساسه. وقد لا يتيسر النفاذ إلى ذلك اللبس إلا بالعودة إلى مساءلة ذلك المبدأ في ما يحدده سلبا، كما سبقت الإشارة وإن جازت العبارة، لا في ما يقدّم به نفسه إيجابا.
من زاوية النظــر هــــذه، ربمـــا أمكن القـــول إن كل مبدأ، مهما بلغ من الشمول، إنما يميّز ويطرح ويستبعد، يعيّن من هو جدير بالانتماء إليه ومن ليس بذلك قمينا. وإذا ما كان الأمر هذا شائعا، فهو قد يكون في شأن حقوق الإنسان أبعد مدى وأنكى. إذ ما مصير أولئك الذين لا يندرجون في إطار ذلك المبدأ الأقصى، مدى وكونية واستغراقا مُفترضا للإنسان كماهية، أي من لا يندرجون في إطار ذلك التطابق، الذي يرسيه ذلك المبدأ بين الإنسانية وحقوق الإنسان؟ هل يُصار، بفعل عوامل تبعدهم عــــن تلك الحقوق، حقيقة أم توهما، فعلا أو افتراضا، لثقافات أو أيديولوجيات يدينون بها تُعتبر نقيضا أو لمجرد عدم الاكتراث بإنسانيتهم، إلى استبعادهم من الإنسانية جراء استبعادهم من تلك الحقوق؟
لا ينبو مثل ذلك السؤال عن تهويم خيال لا أكثر، إذ أن في مجريات أمور هذا العالم ما يؤيده وما أيده مرارا. ولعل في معتقل غوانتانامو ما يقدم أجلى الأمثلة على ذلك «اللبس» (حتى لا نقول أكثر) الآنف الذكر، إذ أدى ذلك العداء للديموقراطية وتاليا لحقوق الإنسان، الذي يُنسب إلى نزلاء ذلك المعتقل، إلى وضعهم خارج الإنسانية وخارج كل قانون، على ما هو جليّ معلوم لا فائدة من العودة إلى الخوض فيه.لكن ذلك المثال الصارخ، والأقصى تبعا لذلك، أبعد عن أن يكون الوحيد، بل أبعد عن أن يكون الأجلى دلالة، أقله لفرط إيغاله في اللامعقول. أما المثال الأفصح في ذلك الصدد، والموحي على نحو بنيوي، فهو دون ريب ذلك المتمثل في القضية الفلسطينية، تلك التي تفضح، بفعل رمزيتها واطّرادها في آن، ذلك التفاوت بين الإنسانية وحقوق الإنسان.
فقد جاء السماح بقيام الدولة العبرية، وذاك بالمناسبة جد في الفترة التي شهدت صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إحقاقا لحق إنساني اعتُبر أساسيا وأوليا، هو المتمثل في تمكين اليهود، بعد طول اضطهاد كانت المحرقة أوجه المأسوي، من «وطن قومي»، ولكن ما كان لافتا في ذلك السخاء غير المسبوق أن إحقاق ذلك الحق كان ذاهلا تمام الذهول عن حقوق أخرى يُفترض أنها مساوية، لإنسان آخر، يُفترض أنه هو أيضا مساوٍ، هو ذلك الفلسطيني. وفي ذلك ما قد يستوي إقرارا، ضمنيا ولكنه ناطق بطبيعة ذلك اللبس، بأنه لا سبيل إلى إقرار إنسانية تلك الحقوق إلا بإنكار إنسانية أحد الطرفين وإعلان خروجه منها.
وهكذا ولكل ذلك، قد لا يتحقق إصلاح حقوق الإنسان إلا بمطابقة، لا تزال بعيدة عصية، بين إطلاقية تلك الحقوق وإطلاقية الإنسان.
نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 14-12-2008
قد لا تُدرك فكرة، مبدأ، دعوة إلا بواسطة تحديدها سلبا، من خلال ما تهمله، ما تستبعده، ما تستثنيه، عن وعي أو عن غير إرادة. فهي تعين مجال صلاحيتها، وليس لها إلا أن تفعل، أقله لتبيان ما يميزها، للتعريف بما يصنع فرادتها أو ما تحسبه كذلك. ما من فكرة، ما من مبدأ، ما من مبدأ، إلا وتطرح نفسها إيجابيا، في ما يبدو مسعى يتخطى تأكيد الذات إلى تحصينها، إذ يصعب، إن لم يتعذر، دحضها أو مجرد مماحكتها، في ما تأنسه في نفسها إيجابا، في ما قامت من أجل إقراره.
خذ مثلا فكرة حقوق الإنسان أو مبدئها، ذانك اللذان يُحتفى هذه الأيام بالذكرى الستين لإصدار إعلانهما العالمي عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، لنرى أن الأمر الآنف الذكر قد يصح في شأنها كما لا يصح في شأن سواها. إذ من عساه، في أيامنا، يجابه تلك الحقوق ويعاندها؟ من فعل وجد نفسه في موقع دفاعي لا يُحسد عليه أو اضطر إلى مماشاة منطق تلك الحقوق الإنسانية (أو قد يُقال «ثقافتها» على ما يقتضي اللسان الدارج في زماننا) بأن يطلق صفة الحقوق، محاولا بذلك تسويغه، على ما هو ليس في عدادها متنكرٌ لها، شأن ارتداء «البرقع» أو ما شاكله من أمارات الإجحاف أو التمييز.ذلك أن الحقوق تلك، والمبدأ القائل بها والمقرّ لها (مع أن الإقرار ذاك فيه نظر)، قد فرضت نفسها وحققت «هيْمنة»، ما جعل حتى أعتى عتاة الاستبداد يتمسحون بها، إذ أضحت عنوان الانخراط في الحداثة، أو على الأقل، في المعاصرة، مع أنها قديمة قدم العالم، على ما ذهب ويذهب بعض المفكرين والباحثين، مثل الألماني ماكس فيبر الذي أعاد بعض أبوتها إلى القديس بولس، أي إلى فترة تأسيس المسيحية، عندما لام هذا الأخير، بشيء من قسوة تأخذ في الحسبان كرامة الإنسان قبل أي اعتبار أو انتماء، نظيره القديس بطرس الذي كان على مائدته يؤاكل جمعا من «الأغيار» حتى إذا ما وفد لفيف من اليهود تحرج وانسحب من صحبة «غير المختونين» أولئك.
قد يكون الجديد الذي جاءت به العصور الحديثة أنها قامت بمأسسة تلك الحقوق، إن سلمنا بقدمها، فاتخذتها أساسا لإنشاء الدول وإحداث الأنصبة الاجتماعية وسن القوانين بل وحاولت إرساءها تشريعا دوليا، وأنها إذ فعلت ذلك، قد نجحت في فرضها «باراديغم»، يأخذ به الجميع، بما في ذلك أعداؤه الحقيقيون أو المفترضون، وإن من باب محاجّته على أرضيته أو من باب مداورته.
ومع ذلك، فإن المبدأ ذاك في أزمة. صحيح أن حال حقوق الإنسان الآن أفضل، وبما لا يقاس، مما كانت عليه في أربعينات القرن الماضي، في موفى الحرب العالمية الثانية، أقله لأنها آلت إلى قدر من كونية عمليّة ولم تعد شأنا شماليا غربيا خالصا، لا يمتد حتى إلى شرق القارة القديمة وجنوبها، ناهيك عن العالم، ولكن ما لا ريب فيه، من وجه آخر، أن الحقوق تلك لا تزال تُنتهك على نطاق واسع، حتى داخل الديموقراطيات ذاتها أو على يديها في أصقاع كثيرة.قد لا يعود ذلك فقط إلى مجرد صعوبة الإرساء وعسر الإنجاز، أو إلى مقتضيات التسييس، تفضي إلى توسل تلك المبادئ في سبيل ما لم توجد من أجله، جزءا من سياسة قوة وسعيا إلى فرض غلبة، ولكن الأزمة تلك ربما عادت إلى لبس يقوم عليه مبدأ حقوق الإنسان، في صيغته الحديثة، من أساسه. وقد لا يتيسر النفاذ إلى ذلك اللبس إلا بالعودة إلى مساءلة ذلك المبدأ في ما يحدده سلبا، كما سبقت الإشارة وإن جازت العبارة، لا في ما يقدّم به نفسه إيجابا.
من زاوية النظــر هــــذه، ربمـــا أمكن القـــول إن كل مبدأ، مهما بلغ من الشمول، إنما يميّز ويطرح ويستبعد، يعيّن من هو جدير بالانتماء إليه ومن ليس بذلك قمينا. وإذا ما كان الأمر هذا شائعا، فهو قد يكون في شأن حقوق الإنسان أبعد مدى وأنكى. إذ ما مصير أولئك الذين لا يندرجون في إطار ذلك المبدأ الأقصى، مدى وكونية واستغراقا مُفترضا للإنسان كماهية، أي من لا يندرجون في إطار ذلك التطابق، الذي يرسيه ذلك المبدأ بين الإنسانية وحقوق الإنسان؟ هل يُصار، بفعل عوامل تبعدهم عــــن تلك الحقوق، حقيقة أم توهما، فعلا أو افتراضا، لثقافات أو أيديولوجيات يدينون بها تُعتبر نقيضا أو لمجرد عدم الاكتراث بإنسانيتهم، إلى استبعادهم من الإنسانية جراء استبعادهم من تلك الحقوق؟
لا ينبو مثل ذلك السؤال عن تهويم خيال لا أكثر، إذ أن في مجريات أمور هذا العالم ما يؤيده وما أيده مرارا. ولعل في معتقل غوانتانامو ما يقدم أجلى الأمثلة على ذلك «اللبس» (حتى لا نقول أكثر) الآنف الذكر، إذ أدى ذلك العداء للديموقراطية وتاليا لحقوق الإنسان، الذي يُنسب إلى نزلاء ذلك المعتقل، إلى وضعهم خارج الإنسانية وخارج كل قانون، على ما هو جليّ معلوم لا فائدة من العودة إلى الخوض فيه.لكن ذلك المثال الصارخ، والأقصى تبعا لذلك، أبعد عن أن يكون الوحيد، بل أبعد عن أن يكون الأجلى دلالة، أقله لفرط إيغاله في اللامعقول. أما المثال الأفصح في ذلك الصدد، والموحي على نحو بنيوي، فهو دون ريب ذلك المتمثل في القضية الفلسطينية، تلك التي تفضح، بفعل رمزيتها واطّرادها في آن، ذلك التفاوت بين الإنسانية وحقوق الإنسان.
فقد جاء السماح بقيام الدولة العبرية، وذاك بالمناسبة جد في الفترة التي شهدت صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إحقاقا لحق إنساني اعتُبر أساسيا وأوليا، هو المتمثل في تمكين اليهود، بعد طول اضطهاد كانت المحرقة أوجه المأسوي، من «وطن قومي»، ولكن ما كان لافتا في ذلك السخاء غير المسبوق أن إحقاق ذلك الحق كان ذاهلا تمام الذهول عن حقوق أخرى يُفترض أنها مساوية، لإنسان آخر، يُفترض أنه هو أيضا مساوٍ، هو ذلك الفلسطيني. وفي ذلك ما قد يستوي إقرارا، ضمنيا ولكنه ناطق بطبيعة ذلك اللبس، بأنه لا سبيل إلى إقرار إنسانية تلك الحقوق إلا بإنكار إنسانية أحد الطرفين وإعلان خروجه منها.
وهكذا ولكل ذلك، قد لا يتحقق إصلاح حقوق الإنسان إلا بمطابقة، لا تزال بعيدة عصية، بين إطلاقية تلك الحقوق وإطلاقية الإنسان.
نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 14-12-2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق