الأحد، 4 يناير 2009

الإيديولوجيا، كما نفهمها، لا تزال العائق الأكبر بيننا وبين الواقع

صالح بشير

لا غرو في أن الإيديولوجيا مفارقة دوما مجافية، وإلا لو انطبق خطابها على واقع بعينه وعلى وقائع لأضحت علما متعلقا بهذه وبذاك، وتلك مكانة لم تبلغها وإن ادعتها لنفسها في بعض الأحيان. غير أنه يمكن الزعم بأنه لم يقيض للإديولوجيا أن بلغت ذلك الشأو المفارق والمجافي كما هي الحال في هذه المنطقة.
ففي كل مقام آخر وفي كل تجربة أخرى، تتطابق الإيديولوجيا في مكان ما أو على صعيد ما مع الواقع، وذلك ما يجعلها قادرة على الفعل فيه، أي أنها تقيم مع ذلك الواقع آصرة فعلية لا مجرد وشيجة موهومة أو افتراضية. خذ مثلا الإيديولوجيا القومية كما عرفتها أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، بما في ذلك مآلاتها القصوى ممثلة في النازية وفي الفاشية، حيث ما كان يمكن للإيديولوجيا تلك أن تقوم لو لم يُصر إلى تجاوز النموذج الإمبراطوري السابق وإلى الإقرار بفواته، أي لو لم تستو الواقعة القومية، بالمعنى «الوطني»، لا ذلك العابر للأوطان على ما هي في قاموس هذه المنطقة، أفق تطور تاريخي لا مناص منه ولا محيد.
وقس على ذلك الاشتراكية التي لم تتأكد إلا نتيجة تطور أدت إليه الثورة الرأسمالية، فجاءت نقيضا لها يتمثل شرطُ وجودها في أنها مستخلصة من تلك الرأسمالية، طبقات اجتماعية وثقافة اعتراض ما كان يمكنها إلا أن تنشأ عنها وفي كنفها. بل ربما جاز القول إن تجربة كتلك السوفياتية ما كان يمكنها الحفاظ على إرث روسيا، إمبراطورية ما فوق قومية واستبدادا مقيما وحسا توسعيا، إلا بأخذ الواقعة الرأسمالية ونظامها ودولتها بعين الاعتبار، وافتعال نفسها تجاوزا لتلك الواقعة يستأنفها ويذهب بمنطقها إلى مداه الأبعد، فاتخذت من الإيديولوجيا الشيوعية أداة لذلك.
كل ذلك للقول بأن الإيديولوجيا، وإن سعت إلى التمويه، تقيم آصرة مع الواقع، جزئية أو مداوِرة، فلا تنبذه أو لا تفعل ذلك إلا من باب تحقيقه، استباقا أو إنجازا، بصورة من الصور وبشكل من الأشكال، وقد يصحّ ذلك على كل الحالات المشابهة إلا على حال هذه المنطقة، حيث يلوح الطلاق مبرما بين واقع الحال وبين الإيديولوجيات الغالبة أو السارية فيهــا، ربمـــا لأن هذه الأخيرة أخفقت في الاندراج في سياق التاريــــخ وفي ما قد يُعبر منحاه، شخوصا نحو الدولة-الأمة (أقله حتى اللحظة)، لأن الوظيفة تلك تولتها الدول والكيانات الناشئة في أعقاب الفترة الاستعمارية، فإذا تلك الإيديولوجيات، قومية كانت أم إسلامية، اعتراض بلا وظيفة، بذلك المعنى التاريخي المشار إليه.
لعل ذلك ما يجعلها تعجز عن الإجابة على السؤال الأساسي الذي يواجهها إلا بالاستنجاد بـ»بنظرية المؤامرة»، وهذه تؤدي بدورها إلى إبطال آليات التاريخ أو إلى إنكارها، والسؤال الكؤود الذي نعنيه هو: لماذا تبدي تلك الدول «الوطنية» والكيانات كل تلك القدرة على البقاء، فتستوي أفقا لا سبيل إلى تجاوزه، بل يؤدي تجاوزه أحيانا إلى التفكك وإلى الدمار، بالرغم مما توصم به عادة من اصطناع من هشاشة وبالرغم مما تُسام من رفض ومن انعدام شرعية؟وقد نجم عن ذلك العجز انسحاب عملي لتلك الإيديولوجيات من الواقع واغتراب حياله. نلوذ، سعيا إلى تقريب صورة ذلك الأمر، بتمييز كذلك الذي أقامه، في سياق آخر يتعلق بالديانات وفعلها، السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر، عندما لحظ فارقا بين ما أسماه «الزهد الخارج عن العالم»، رأى في بعض المعتقدات، لا سيما تلك الهندية، مثاله الأجلى، وبين «الزهد داخل العالم»، ذلك الذي رأى أن البروتسانتية الكالفينية تمكنت من اجتراحه، إقبالا على الثراء وصدا لملذاته، معتبرا ذلك من أوكد إسهاماتها في الحداثة وأبعدها شأوا. شيء من هذا القبيل وتمييز كذاك قد نتبيّهما في وظيفة الإيديولوجيا عندنا وعند سوانا، فإذا هي لدى هؤلاء فعل في العالم، وإذا هي لدينا تدير الظهر للعالم وتنكره وتتنكر له وتنسحب منه جاحدة كل شرعية على مكوناته، وإن فعلت ذلك بعنف يتجاوز بكثير ما من شأنه أن ينبو عن «زهد خارج العالم» ظل في العادة مسالما.
غير أن ذلك أفضى لدينا إلى ضرب من انفصام بالغ، بين واقع نعيشه، في كنف دول وكيانات ننتمي إليها، ساهمت في تشكيلنا، نحمل جوازاتها، نطبق قوانينها أو تسري علينا، تسهر على تعليمنا وتطبيبنا وما إلى ذلك من المهام التي تتولاها الدول، بل قد نتعصب لها في مواجهة «أشقاء» قد نستشعر حيالهم عنصرية، ولكننا نرفض تلك الدول-الكيانات أو نتحفظ عليها، باسم «أمة» أو «ثوابت أمة» نراها الوحيدة القمينة بالوجود والممتلكة لمقوماته ولشرعيته.
ربما أدى ذلك إلى حالة قصوى، هي المتمثلة في أن القول السياسي هو القول الإيديولوجي (على ما تفصح مثلا تدخلات المحلليل والمعلقين على شاشات الفضائيات) في حين أن الهيئات الفاعلة في الواقع والعاكسة له لا تملك، في تبرير ما تفعل أو ما لا تفعل، غير قول يظل دون السياسة بمعناها الأكمل، ليكون مجرد خطاب تسيير أو اضطرار أو واقعية بأكثر معانيها ابتذالا وامتثالا لإكراهات بعينها، لا تدعي من شرعية غير ذلك.وقد يكون مثال سورية نموذجيا في هذا الصدد. فهذا بلد يوحي سلوك قادته بأنهم آلوا إلى الإقرار بوطنية سورية، بما هي تطابق بين الكيان وبين السلطة القائمة عليه، فإذا هم يعلنون استعدادهم للتفاوض المباشر مع إسرائيل، مع أن أوضاع غزة على ما نعلم، وإذا هم، بالخصوص، يعترفون بلبنان ويقرون بوجوده كيانا قائم الذات، يتبادلون معه السفراء ويقبلون على ترسيم الحدود معه، متخلين بذلك عن أقنوم ليس فقط من «ثوابت» الإيديولوجيا القومية الحاكمة، ممثلة في البعث، بل من «الثوابت» السورية بإطلاق، منذ أن بُعثت تلك الدولة إلى الوجود، لكن ذلك التوجه نحو الوطنية-الكيانية السورية، لا يجد كلاما سياسيا يضطلع بصياغة مفرداته وبالتعبير عنه وبتبريره، لأن سطوة الإيديولوجيا، حيال تلك القضايا، لا تزال متمكنة، تحول دون ذلك وتستبعده، مع أن الأمر قد يتعلق بتحول أساسي بالغ الدلالة.
لكل ذلك، ربما أمكن القول إن الإيديولوجيا وفق طريقة إقبالنا عليها، كما سبقت الإشارة، تستوي العائق الأكبر، بيننا وبين ما يعتمل في أعماق مجتمعاتنا من تطورات، نفضل مواجهتها بالإنكار.

نشر في ملحق "تيارات"، يومية "الحياة"، بتاريخ 28-12-2008

ليست هناك تعليقات: